• الرئيسية • اخبار • مواضيع علمية • مواضيع ادبية • البوم الصور • روابط مختارة • سجل الزوار • المنتدى •

مجموعة "مذكرات رضيعة" لسناء الشعلان

ترجّل عن صهوة الحياة

كتبها: د. خالد عبد الكريم

10 -09 -2010

مدخل:

يشهد الأردن والعالم الغربي في مجال الكتابة الإبداعية شعراً وقصة ورواية اجتهادات في التنظير عديدة، ينهل بعضها من المرجعية الغربية والبعض الآخر يستند إلى ذوقه الفني والشخصي أو إلى أفكاره وتأملاته.

والكتاب في كتاباتهم للمجموعات القصصيّة ينظرون إلى القصّة القصيرة الجديدة في الأردن، التي يكتبها مجموعة من الكتّاب والكاتبات، الذين برزت مواهبهم الفنّية خلال العقد الأخير من القرن المنصرم، وقد حدّدت لنفسها منهجاً إبداعيا وفكّرت في الاتّكال على ذاتها. ومن نتائج هذا الجهد صدور العديد من المجموعات القصصيّة اللافتة. ومن تلك المجموعات نجد المجموعة القصصيّة "رضيعة"(1) للقاصّة سناء شعلان. التي حاولت خوض عملية التجريب القصّصي الذي توزّعه أقلام مختلفة انقسمت إلى نوعين: تجريب قصصي معقول، وتجريب قصصي موغل. والفرق بينهما أنّّ التجريب القصصي المعتدل لم يكسر كلّ القواعد الناظمة للقصّة القصيرة. بل اجتهد في إضافة لمسات فنيّة وجماليّة لم تطرقها القصّة التقليدية والقصّة الواقعيّة. ومن هؤلاء القصاصين والقصاصات سناء شعلان، موضوع القراءة النقديّة لمجموعتها القصصيّة الجديدة التي صدرت مؤخّراً "رضيعة".

ومن أكثر الكتّاب العرب الذين خاضوا غمار التجريب الروائي القاص المغربي أحمد المديني، الذي عُرف بغلوه في التجريب القصصي، كما اقترن التجريب بكتاباته الروائية والقصصيّة.

لكنّ تجربة سناء شعلتان في مجموعتها القصصيّة "رضيعة" عليها هذا المفهوم من التجريب، الذي ابتدعته القصة المحدثة، والذي يمثل بالنسبة لها الوليد الشرعي للمرحلة الحاليّة، مرحلة العولمة والهيمنة الرقمية، وانتشار القنوات الفضائية، وتعدّد الوسائط ووسائل التعبير وتعدّد قنوات التلقي، مع اختلاف جذري في نفسية القارئ، فالقيم التي كانت سائدة في السبعينات وقد غذتها الثقافة الجمالية الاشتراكية وفكرة الوحدة الوطنية، والقومية، والتحرّر الشعبي تلاشت مع انهيار المقومات واهتراء القنوات الموصلة. أمّا في الثمانينات من القرن المنصرم قد تأكّدت قيم الفرد، والإنعزالية، وتفكك الكتل الكبيرة، وتجمعها في شبه جزر صغيرة معزولة عن العالم وعن محيطها. لكن مع نهاية القرن وإطلالة القرن الحالي بات الفرد ذاته غير قادر على إثبات فرديته، ولم يبق له سوى محاولة إثبات فرادته على مستوى الخطاب، أيّ شكل الكتابة. فالعالم المعاصر بات عالماً استعاريّاً، وعالماً افتراضيّاً، ورقميّاً، لا صلة له بالواقع. فالواقع والمحيط محض خيال افتراض... ممكن... غير قادر على التأكّد من كينونته ولا من وجوده المادي وأثره الفعلي ووجوده الفاعل.

غير أنّ عالم اليوم عالم التكنولوجيا الحديثة والمتوحّشة، شكّلت لدى القارئ المُحدث عقليّة متناقضة، تمثّلها الحمولة المتنوعة لشبكة الإنترنت والممتدّة والمتداخلة والمتنوّعة.

وشكّلتها حمولة القنوات الفضائية التي فتحت الباب على مصراعيه أمام المتفرّج، فانفتحت على الأخلاقي ونقيضه، والأدب الرصين والتافه، والسينما التجاريّة والسينما الثقافيّة، خلقت التباساً بين الفكر والأخلاق، وبين قيم النبالة وقيم الانحطاط.

ومن الإشكاليات التي واجهت القصّة القصيرة، ووضعتها على الصعيد الإنساني معضلة "الإرهاب"، الذي انتشر كالسرطان في المجتمعات الإنسانية، ومنها المجتمعات العربية، التي دفعت ثمناً غالياً من إنسانيتها، وهويتها الحضاريّة. و"الإرهاب، كالفيروس، ماثل في كلّ مكان، هناك حقن عالمي متواصل للإرهاب"(2).

وقد وقعت القصّة القصيرة العربية المحدثة في مطب ما يشبه السياسي التكنوقراط يشتغل على الواقع الافتراضي (الورقي) لا على الواقع الحقيقي (المعيش). وتعاطت مع مفردة "الإرهاب"، بخيال مضاعف، انعكس  على واقع مثالي، شكّل صورة عن الواقع الذاتي للقاص/القاصّة/، بعيداً لحد ما عن صورة الواقع المتأرهب في جميع تفاصيل الحياة اليومية، ولم يقتصر على الفعل الإجرامي، أي أنّ الجرم كان نتيجة للواقع الاجتماعي المتأرهب!

ومن أبرز الملامح الإشكالية القصصيّة التي تناولت قضية الإرهاب، التي يرتكز عليها الخطاب القصصي عند القصّاصين/القاصّات/، التقطيع المشهدي. وقد أصبح هذا الخيار مبدئياً لدى الجيل الجديد. ويجد سنده في الكتابات القصيرة في السينما، وفي المسرح، والروايات التلفزيونية. بل مرجعه الأساس الواقع الافتراضي؛ لأنّ الواقع كما ينظر إليه اليوم، لا يبدو إلاّ مقطعاً، وعبارة عن مشاهد متراصّة غير فسيحة.

لكنّ للمشهد القصصي إمكانيات جماليّة وخطابيّة متعددة، كالتكشيف والاختزال، وهما ملمحان فارزان؛ لأنّهما يقفان في الطرف الآخر والنقيض من الكتابة المسترسلة، والكتابة التقليديّة. وإن كانت كلّ صورة أو مشهد أو لوحة فنيّة تعدّ ذات قيمة مسترسلة ومتواترة داخليّاً. وكذلك استرسالها وتفاعلها لا يتجاوزان الحدود  الفاصلة لكلّ مشهد على حدة. أمّا خارجيّاً ومن المنظور الكلّي فإنّ التقطيع يتحكم في البناء.

حدث الإرهاب

حدث الإرهاب يتجلّى في المجموعة القصصيّة رضيعة" لسناء شعلتان، لا سيماً عندما يصبح الإرهاب شاهداً متطرفاً وغير إنساني أكثر من الإنسان الذي قيّدته العادات والأعراف والتقاليد، فيأتي الحبّ جريمة كبرى لا تغتفر، ويجب مناهضته وممنوع وقوعه.

"...ثمّ جاء الموت، جاء انفجاراً رهيباً صمّ أذنيها لثوانٍ خالتها سنوات، ظنّت أنّ انفجاراً حدث في عبوة غاز أو أنّ تماساً كهربائيّاً قد حدث، لكنّ سقف الصالة الذي انهار فجأة، وهوى زجاج الواجهات، جعلها تظنّ أنّ زلزالاً ضرب المكان"(3).

إنّ مرتكز هذه الحكاية في "النصل والغمد" الذي تمثّله الإرهاب القائم جوهرة على تحريم الحبّ وتجريم المحبّ. وهي حكاية متوارثة ومطردة عبر التاريخ الإنساني، وليس المحلي العربي فحسب، أي أنّها حكاية كونيّة لا محليّة.

والنظر إلى هذه المسألة مهم جدّاً؛ لأنّه يشير بسخرية إلى تحجّر الإنسان الذي قام بفعل القتل، واستطاعت القاصّة سناء شعلان استئناس الحجر شاهداً على هذا الموقف الغريب، فالصخر يحفظ العهد، ويبوح، يبوح بمكنون الذّات المضطهدة والمحبوسة والمقيّدة بحبال الإرهاب!

وإذا كانت الحكاية مقيّدة بالإرهاب وبالموروث الثقافي وبالعادات والتقاليد؛ فإنّ اللغة القصصيّة، كسرت القيود ، التي تعاطت مع هذا الموروث، ولهذا فهي لا تعاني من مركبات النقص، ولا تعرف ما معنى الخجل المقيت.

وتضعنا القاصّة سناء شعلان في هذا المقطع القصصي أمام تساؤل، هل تحتاج اللغة اليوم إلى حياء، وإلى إخفاء الحميم والذات؟ بيد أنّ القاصّة الشعلان انحازت إلى أنّ اللغة لا تعرف حدوداً، ولا تخجل من ذاتها في العراء أو في وسط القتل الجماعي، في عزلة الموت أو في وسط الضجيج العالي؛ لأنّ الإنسان يكون في لحظة عزلته أكثر عمقاً وتأمّلاً وإنسانية.

حراك الشخوص في النص القصصي "رضيعة"

كثرت الدراسات التي تناولت في التأكيد على حقيقة مادة القصة القصيرة تعود لحالة احتباس للحظة ما، شكّلت أطياف انفعالاتها في القاص، فتنشأ عنها احتباس إبداعي لحركة الشخوص المتحركة في تلك اللحظة المحتبسة، هم دمى حروف ترتدي أثواب آدمية الحراك في النّص القصصي، ولكن هل تعبّر هذه الشخوص المتحرّكة عن تفاعلات اللحظة المحتبسة؟ أم أنّها عنصر محايد باعتبارها كواليس لغة السّرد فحسب؟ هنا نعود إلى طرح السؤال التالي: ما المساحة المنضبطة لحرية حراك الشخوص؟ وما المسافة المتاحة للقاص/القاصّة/ في خروج عن طور دميته القصصيّة للتعبير عن ذاته الدفينة، دون تناقضات وإحداث خلل في البناء التركيبي شخوص القصّة، ولا يخفى على أيّ متتبع للمشهد القصصي العربي، أنّ تلك التساؤلات ما زالت في ملفات النّقاد العرب، وتحتاج لمن يكشف النقاب عن تلك الإشكالية القصصيّة.

قراءتي التطبيقية في هذا الصدد وفي ضوء تلك الإشكالية في محاولة جادة لنفض الركام عنها، من خلال تلك القراءة النقديّة على قصة "صانع الأحلام"(5) التي جاءت في المجموعة القصصيّة "رضيعة"(6) للقاصّة سناء شعلان.

"صانع الأحلام" لوحات دراميّة قصصيّة جيّاشة، ذات أطياف ألوان متضادّة تنتقل تواليك من أتون النص، أمواج متحرّكة بألوان متنوّعة، لا تلبث أن تبث انعكاسات بلوريّة قصصيّة عند كلّ موجة تلتحم مع حركة الشخوص القصصيّة. وتبرز في النص وتيرة التشويق المتصاعدة، وجاذبية العرض لشخوص النّص القصصي لـ"صانع الأحلام".

"على الرغم من أنّه صانع الأحلام، وأعظم حالمي القرن العشرين إلاّ أنّه يكره هذا الحلم، الذي يشلّ لحظاته، ويتداعى أمامه ألماً يُضاف إلى الألم الذي يشعر به، ولا يدرك معناه"(6).

إنّ واقعية تشخيص السلوك ألف ياء الواقع المقهور، وفي الوقت ذاته برزت براعة القاصّة في امتلاك مهارات ضبط مسارات القصّة وحراك شخوصها دون تفلّت منها وتفقّد أدوات السيطرة عليها، وبذلك تصبح الشخوص في منأى عن انطباعات ذات القاصّة، وميزة البراعة هنا تعود لطبيعة أجواء النّص القصصي، الذي يعود إلى سمة النّص الذي تتدفق فيه الانفعالات الثائرة الغاضبة، التي تبحث عن رمق الحياة، ففي تلك الأجواء يصعب ضبط أدوات النص والسيطرة على النص، لكنّ الشعلان تمكنت من ضبط ثنائية الرغبة، وحركة الشخوص القصصيّة.ويلحظ المتأمّل في النص، مرونة قلم قاصّتنا في بث مسرح حروف نصّها القصصي بين يدي القارئ، إذ تتحرك الشخوص بعفوية فيّاضة بتدفق المشاعر في انعكاسات السلب والإيجاب، والتواءات مسارات الجسد في المكان بحيث تتشكّل معها عقدة القصّة، وإيقاعات تأزّمها وفكّها بأناة، وهنا تبرز سمة إبداع النّص وتعود لقدرة القاصّة في منح شخوص نصّها حريّة الحراك داخل زوايا النّص وعفويّة سرديّة في وصف حراك جسدها، وخارطة دماغها في التعاطي مع الأشياء، بمزايا متنوعة للشخوص منها عفوية الحسّ.

"في لحظة غدا المكان جزءاً من الجحيم، الجثث في كلّ مكان، والحبيبة ريم غدتْ جثّة هامدة لا روح فيها؟، ومع صوت الجلبة أسلم نفسه لغيبوبة قد تنقذه من الأمّة الرهيبة، ونسي كلّ شيء، بل كاد ينسى نفسه إلاّ منظر ريم"(7).

ولكن هل يكفي تصوير الشخصيّة وهي تعمل؟ بالتأكيد لا، لأنّ لا بدّ أن يكون العمل مفيداً وممتعاً في آن واحد، لهذا يقول أرسطو إنّ: "الهدف من الإبداع الفني هو الإمتاع والتعليم، وبهذا يكون العمل الفني تصويراً للشخصيّة وهي تعمل عملاً له معنى"(9) والسؤال هو : هل يستطيع قاص صاحب رسالة في الحياة أن يقول كلاماً غير الذي قاله أرسطو قبل خمسة وعشرين قرناً في القرن الرابع قبل الميلاد مهما كان نوع القصة التي يكتبها ومهما كان الشكل الفني الذي يصطنعه؟! والجواب بالطبع "لا"، حتى ولو كان الكاتب عبثيّاً!! فما نسميه بـ "لحظة التنوير" في التراث الحديث للقصّة القصيرة ليس إلاّ إعادة تسمية لما سماه أرسطو قديماً بـ "التعرّف والتحوّل" الذي يحدث للشخصيّة في القصّة، ولا أعتقد أنّ قصة ناجحة مهما كان شكلها الفنّي تخلو من هذا النوع من (الاكتشاف) أو (التعرّف والتحوّل) إذ بدونهما لا تتحقّق لحظة التنوير الذي يريدنا القاص/القاصّة/ أن نخرج بها من قراءتنا لقصتهما، وهي اللحظة التي فيها القاصّة/القاص/ موقفاً معيّناً لنستشف منهما معنى محدد بتجمع كلّ خيوط الحدث في هذه اللحظة. "ويستسلم للموت مع أنّه لا يزال يجهل الذنب الذي اقترفه، فاستوجب أن يفتك به وبأحلامه بسببه!؟ وزغاريد النسوة في فيلم "عمر المختار" تزفه إلى نومه الأبدي"(9).

إلاّ أنّ ثمة إشكالية تتصل بفكرة "صانع الأحلام"، ألا وهي هل من ضمن مهمة القاصّة أن تكون مرشدة وواعظة وصاحبة عبرة في قصّتها؟ وهل من اختصاصها أن ترمي "ملاحظات عابرة للبادئين في السّير على دروب الحياة"(10).

هذه أسئلة تدفعك لتساؤلاتها وأنت تبدأ في قراءة "صانع الأحلام" تحس إنّها أسئلة ضرورية، تعيد إليك أهمية طرح السؤال من جديد: ما هي مهمة القاص؟

بعض النقّاد يرون، أنّ مهمة القاص تنحصر في تقديم تجربة قصصيّة قيمة في إطار فني ناجح، يوفر للقارئ متعة أدبية، وكذلك تقديم جوّاً من الإمتاع الفني، وليس من مهمة القاص دون أن يقدم موعظة أخلاقية أو وطنيّة في قصصه، كمن يريد أن يسمع من فوق أن الشرف والفضيلة والأخلاق هي زينة الحياة الدنيا مثلاً! غير أنّ تحدّد رسالة القصّة القصيرة أو على الأصح نوع التصوير الفني، هو استكشاف الحقائق من الأمور الهامة في صياغة القصّة، إذ ترصد العادي والمألوف في الحياة اليوميّة، ومن ثمّ تحويله لغير ذلك، متضاد مع العادي والمألوف. وفي هذا الحراك تتسلل مفاهيم وبعض المواعظ، ليس من باب التبشير بها، لكن من أجل رسم الصورة النفسيّة الاجتماعية للفضاء القصصي، ومن خلال هذا التكثيف والتركيز في التعبير والتصوير، قد يؤدي إلى حدّة الانطباع لدى بعض النقّاد العرب، الذين يصوّرون أنّ هذا التعبير يأخذ شكل الموعظة والدعوة للفضيلة.

لكن لا يتناسى الكثير من النقّاد العرب، أن هناك مستوى أخلاقي يتمزق عنده وجودنا في تساؤل مؤلم، وهو مستوى لا يتطلب جواباً واحداً. إذ إنّ كلّ جواب يرجعنا إلى ظلمات وجودنا. وهذا الحدّ الذي يوضع عنده ذلك يرجعنا إلى ظلمات وجودنا. وهذا الحد الذي يوضع عنده ذلك التساؤل حد متفجر. وهذا المستوى الأخلاقي، هو الذي يرفع الكثير من القاصّين والقاصّات للدعوة عبر إبداعهم القصصي للخلاّق التحفيز على عمل الخير.

إنّ الشعور بالإثم هو ما يمسّ الإنسان في قيمه أو فيما يقوم مقامها وأعني التاريخ والجدل، وهو يحدث فيه انفصاماً لا نهائيّاً. ويكون الخير والشّر هنا أكثر النقائض مبالغة وغلظة وشناعة. وهذا ما حاولت تصوير القاصّة سناء شعلان في قصّتها "صانع الأحلام" إذ أرادت تصوير هذه المبالغات وهذه الشناعة، عندما تتحول لفضيلة عند القتلة الذين قاموا بتفجير الإنسان الحالم، الذي يبحث عن وجوده من خلال تحقيق ولو جزء يسير من أحلامه، لكن شناعة الغدر أوقفت هذه الأحلام.

فاصل

عندما نخون العدو نخونه بالنسبة لأخلاق مشتركة، أو على الأقل لأخلاق تظل مفهومة بالنسبة إليه، قابلة لأن تنقل إلى مصطلحاته، ونحن نتواصل معه بتدنيس حقائقه، كما يتصوّر ويعتقد.

أيكون الإرهاب المتجسّد في الخيانة هو أول مناهض للأخلاق أيكون مناهض للأخلاق بلا منازع؟ ذاك ما تذهب إليه سناء شعلان في قصّتها "المقاتل"(11).

إنّها إذن مقابلة خيانة بأخرى، وسأحاول أن أضم هذا كلّه في ما سأطلق عليه "عقدة بشير" تلك البنية الرمزية التي ينطلق منها الوعي المأزوم. ها نحن إذن أمام مجرم قتل بشير نافع المقاتل الفلسطيني الذي فقد حياته جرّاء التفجيرات الإرهابية التي وقعت في أحداث عمان المعروفة، وبشير نافع بطل القصّة، وفي الوقت ذاته بطلاً لواقع متخيّل، فرض عليه الواقع الإرهابي أن يخون أمانيه وأحلامه جرّاء الخيانة الأولي التي قام بها الإرهابي. وهنا يجب أن نضيف إليهما خائناً أكثر حزماً ومهارة. الذي حاول تبرير القتل بردات فعل على إجرام العدو- العدو هنا تتسع مساحته وتوصيفاته، حسب مزاج القاتل، إذ لا يوجد معيار محدّد ومعرّف!

لنبدأ إذن بالحديث عن جريمة الإرهابي. "موت جبان يتسلل كاللصوص إلى المكان، يفتك بالعزّل والضيوف دون أن يعرّف بنفسه"(12).

سخّرت القاصّة سناء شعلان بالتعريف الذي هو نقيض العقيدة والفكر الوثوقي. وهكذا سخّرت من النّص الوثوقي إلى حد الهذيان، فإنّه يبعث فينا على الرغم من الهدف الذي يرمي إليه، ألماً لا نمتلك معه أنفسنا.

إنّ هذا النموذج الذي وظفته القاصّة الشعلان يشبه عنكبوت ميكانيكي، فهي توهمنا بأنّها تطرح سؤالاً "هل الإرهاب مناهض للأخلاق؟" ثمّ تنسج نسجاً منتظماً ماسكة بجميع حروف السؤال بمهارة هذا في الوقت الذي نعرف فيه، ومنذ الكلمات الأولى لقصة "المقاتل"، بماذا يتعلق الأمر. لذا فإن يتقلص بشكل ميكانيكي، حتى يتوقف في نقطة الكشف، الذي يعيد طرح جوهر السؤال، وإن كان السؤال الأول مدخلاً لجوهر السؤال الثاني، هو الهدف المراد للقاصّة "هل الإرهاب مناهض للنضال؟". ليس من شك أنّ الشعلان صرّحت بذلك عندما قالت:

"لم يعش بشير ليرى وطنه يدخل في الأمن والسعادة، كان آخر عهده بالدنيا نظرات الخوف التي رآها في أعين الآمنين الذين روعهم جبان في لحظة صفاء في الفندق الذي عرج عليه"(13).

هذا التواطؤ بين الإرهاب والقتل لا يتوقف عند مغالطة الأيدلوجية، التي تزعم أنّ هذا رد من ردات الفعل على هزيمة العرب في التصدي لأعدائهم! فهو ينطوي على معنى استراتيجي هام، ذلك أنّ الطرفين متفقان على تكريس هزيمة العرب، وهيمنة ذلك على الوعي العربي الجمعي، الذي قد يتعاطف بعض أفراده مع هذا الفعل المجرم.

ومع ذلك فإنّ الإرهابيين ممزقون بين متطلبات فكرهم وبريق القتل، والدعاية المعادية للعرب، تعرف كيف تستغل كابوس القتل، فتجعل منها وسيلة حفظ سياسي. ولعبتهم المفضلة، أنّه على العرب المسلمين التخلّص من فكرهم الإرهابي!

سناء شعلان حاولت جاهدة أن تعطي فكراً إنسانياً عربيّاً يكشف زيف هذا الادعاء الباطل، والقول إنّ العربي هو أوّل ضحايا الإرهاب.

"استلقى بشير في قبره، وفي نفسه غصة من الإرهاب الذي لا يعرف النّور، والقتال وجهاً لوجه، بل يختبئ في الظلام، ويقنص لحظات السّهو ليفرغ سمّه في لبن الآمنين، تمنّى لو أنّ له كرة أخرى في الحياة يكرّسها لقتال الجناء الذين يعيشون في الشقوق الأرضيّة، ويسمنون بالحقد، لكن أنّى للموت أن يفرط بغنائمه؟!"(14).

نستنتج مما تقدّم أنّ القصّة إبداع، وليس من الضروري أن تدخله في قفص التقسيمات والتنويع المحدّد، وذلك أنّ القصّة نصّ حر، وسيّد الموقف فيها هو أسلوب الكاتب والكاتبة، اللذان يحكمان على قصتهما بالخلود أو السقوط، والخالد منهما ما يترك في نفس القارئ صدى طويلاً يستفزّ ذاكرته وفكره.

إنّ النصوص القصصيّة "رضيعة" نصوص مصمّمة على استرجاع بعض الأسئلة والإجابات التي لها صلة بمعضلات حقّنا الإنساني في العالم العربي، وتحاول إضاءة جوانب من هذا الحقّ.

الهوامش:

  1. سناء شعلان: مذكرات رضيعة، مجموعة قصصيّة، ط1، إصدار نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، قطر، 2006.

  2. جاك دريدا، امبرتو أيكو: ذهنية الإرهاب: لماذا يقاتلون لموتهم، ترجمة بسّام حجّار، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2001، ص21.

  3. سناء شعلان: مذكرات رضيعة، ص19.

  4. نفسه: ص17.

  5. نفسه: 1.

  6. سناء شعلان: مذكرات رضيعة، قصة صانع الأحلام، ص9.

  7. نفسه: ص10.

  8. رشاد رشدي: في القصة القصيرة، ط1، المكتب المصري الحديث، القاهرة، ص93.

  9. سناء شعلان: مذكرات رضيعة، ص16.

  10. رياض نجيب الرئيس: الفترة الحرية: نقد أدب الستينات، دار الرياض، الريس للكتب والنشر، لندن، قبرص، ط1، 1965، ص75.

  11. سناء شعلان: مذكرات رضيعة، ص85.

  12. نفسه: ص87.

  13. نفسه:  ص87.

  14. نفسه: ص88.

سجل دخولك و علق على الموضوع

مواضيع ذات علاقة

 

 

روابط على موقعنا

 

 

واحة جالو على الفيس بوك

 

جالو ليبيا
اخر تحديث: 09/12/2010م.