• الرئيسية • اخبار • مواضيع علمية • مواضيع ادبية • البوم الصور • روابط مختارة • سجل الزوار • المنتدى •

الحاج صالح فنشة المجبري

الكاتب : مصطفى السعيطي

11-09-2010

المصدر موقع الاجدابي 27-08-2008

 

.. الحمد لله .. في خير ونرجى في خير .. " ..

هذه الترنيمة المتفائلة كانت لازمةً التصقت بفمه على نحو دائم ،

وارتبطت بسلوكه وكل تكوينه النفسي والظاهري ،

فأضحت عادة يعرفه الناس بها ..

 

 

 

لحيته الكثة البيضاء التي أطلقها تفترش صدره في أخريات عمره .. ونظاراته السميكة .. وجلسته الوقور أمام دكانه يقرأ من مصحف كبير آيات الله العزيز .. وبصره ملتصق في صفحاته ، لا يبارحه إلا عندما يرتفع الأذان مؤذناً بدخول الصلاة من مسجد مصراتة المجاور لمتجره ، فيغادر مكانه ويشد خطاه إليه .. لأنه كان على يقين أن الحياة الدنيا لعب ولهو ، وتفاخر بالأموال والأولاد ، وأن ( الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً ) .. تلك كانت قناعاته التي استقاها من أعظم المناهل وتربى عليها .. إنه كتاب الله الكريم ..

ولد الحاج صالح محمد فنشة في حدود سنة 1916ف في واحة جالو مستقر قبيلته ، وهو من بيت ( القزوزة ) في قبيلة المجابرة .. وكعادة أبناء الواحات في ذلك الزمان ، تلقى تعليمه في الكتّاب على يد الشيخ ( ارضيوة عبدالنبي ) ، ودرس القرآن الكريم على رواية ( ورش ) التي كانت سائدة في الواحات إلى وقت قريب .. ولم يدخل المدرسة الإيطالية ، بل عاش ـ رحمه الله ـ لم يعرف كلمة واحدة بالإيطالية .. بالرغم من كثرة الراطنين بها من حوله ! ..

توفي والده وتركه في التاسعة من عمره .. وبعد ثلاث سنوات فقد أمه فتجرع مرارة اليتم مبكراً وعاش في كفالة أخيه الأكبر ( حسين ) .. ولأن أسرته كانت تمارس التجارة ، التي لا تعرف حرفة غيرها ، فقد كان على ذلك الصبي الغض الذي لوحته شمس الصحراء أن يقتفي أثر القوافل المتجهة إلى واحة (سيوة ) بمصر ، تحت وطأة الحر وفوقه ، ساعياً خلف رزقه في أرض الله الواسعة التي جعلها ذلولاً لعباده الذين يسعون للرزق الحلال .. ولم يكن له خيار آخر غير هذه المهنة التي باركها الله فاتسعت للجميع ، فتعلم منها أبجدية الصبر وقوة التحمل .. فاليتم والفقر والشقاء .. هذه الثلاثية التي ابتلى الله بها عباده المخلصين هي التي صاغت حياته . وأي مصيبة يبتلى بها صبي في مقتبل عمره أكبر من هذه الأقانيم الثلاثة ؟.. فلا عجب أن تسمع ( صالح فنشة ) يردد باستمرار " في خير ونرجى في خير " !

لكن ( صالح فنشة ) الذي طوحت به التجارة هنا وهناك ، وحطت به في بقع كثيرة ، وكسب منها الكثير ، كان من ذلك النوع الذين وقفوا عند حدود الشرف ، وراعوا الله في في تجارتهم ، واحتفظوا بطهارة الوجدان وصفاء الذمة في إباء واعتزاز .. فلم تراوده الدنيا ولا المال الذي جرى بن يديه عن نفسه ، ولم يبخل به على غيره .. بل كان من المسارعين إلى جنات الله ، حين نذر عمره وماله في سبيل البر والإحسان والتوسعة على المعسرين .. ولم يدر بخلده يوماً أن ما يبذله للآخرين سيضيع .. لأن الله لا يضيع أجر المحسنين .. فاشتهر بين الناس بالكرم وإغاثة الملهوف .. فكان ـ رحمه الله ـ يتوخى النظرة إلى الميسرة التي أوصى الله بها عباده المتقين .. لهذا كله تزاحم أهل النجوع القريبة على دكانه .. فكم من فقير تزوج وبنى بيتاً على حساب صالح فنشة ، الذي لم يكتفِ بإعطائهم بضاعة من دكانه بالآجل ، بل كان يقرضهم المال بدل المصرف الذي ظل حتى وقت قريب مجهولاً للكثيرين .. وكم من محتاج أو غارم سدّد عنه غرمه وسدّ حاجته ؟ .. وكم من أرملة لجأت إليه فتكفل بتزويج ابنها وأسعدها برؤية أحفادها ؟! وفوق هذا لم يعرف عنه أنه باع بضاعة بالآجل بأكثر من ثمنها بالعاجل ، حتى وإن أفتى بذلك أهل الفتوى .. فالثمن هو الثمن .. ( وما عند الله خير وأبقى ) .

وفي الأدراج ازدحمت السجلات التي اكتظت بالدائنين .. وتناقصت البضاعة .. لكن ( رزق الحلال يرقّ وما ينقطع ) .. وتثمر السنبلة سبعمائة حبة بفضل الله .. وهكذا كان .. وقد كانت الناس على تلك الأيام المباركة ( وأحسبني كنت أعرفها ) .. يشغلها الدَّيْن ، ويقض مناماتها ، فيظل هاجسها الأخطر والأكبر ، فتهرع إلى تسديدها خوفاً من الله وحده .. فما أن يحل موسم ( الحولي ) أو ( الجلامة ) أو الغلة أو ( السواني ) ، حتى تسارع إلى خلاص ذممها من التجار الذين أقرضوهم في ساعة العسرة .. وتمتلئ أدراج التجار بالمال الحلال الذي منّ الله عليهم به مغموساً في عرق الحلال وحسن الظن بالله الكريم .. هذه الفلسفة البسيطة التي كان يعتنقها ( الحاج صالح فنشة ) تقتضي أن المال الذي تقرضه للناس يأتي بأجر عظيم ويعود إليك .. لأنه كان على يقين كامل بأن الله يمحق الربا ويربي الصدقات ..

وحين أقفلت المتاجر ـ على اختلاف نشاطها ـ أبوابها ، وحلت محلها المؤسسات التجارية الاشتراكية ، ترك الحاج صالح فنشة متجره مع من ترك .. ومزق سجلاً يحوي ما يفوق الثلاثين ألف دينار ديوناً على الناس لم تسدد ( وهذه كانت تشكل ثروة طائلة بحساب تلك السنين ) ، ووهبها لله الذي لا تضيع ودائعه ..

وحين كنا صغاراً ، كنا نتحين موعد توزيع الزكاة في أول أيام عاشوراء ونندس بين صفوف المحتاجين الذين وقفوا أمام دكان الحاج صالح فنشة ، نمد أيدينا مع الأيادي نتلقف ما جاد به سخاء ذلك التاجر الذي كان أول السابقين إلى السوق ، وقد يؤجل الصلاة الراتبة بالمسجد ليؤدي حقاً آخر إرضاءً لربه وخدمةً لعباده .. وكنا نعرف ( بحكم الملاحظة ) تجاراً كباراً يفوقونه تجارةً ورزقاً يقفلون أبوابهم يوم عاشوراء هرباً من تزاحم المحتاجين وإلحاحهم عليهم ( ولعلهم كانوا يؤدون زكاتهم ـ والله أعلم بهم ـ بطرقهم الخاصة ) .. رحم الله الجميع .. فقد أصبح معظمهم في ذمة الله ..

واحترف الحاج صالح فنشة بعد ذلك تربية الحيوانات وكسب الإبل ( هذه الحرفة التي لم تطالها تحولات التأميم الاشتراكي في المجتمع ) .. فتسابق الرعاة إليه ، ساعين إلى العمل عند صالح فنشة الذي لا يبخس الناس أشياءهم ، ولا يغتصب حقوقهم ، بل يدفعها إليهم قبل أن يجف عرقهم .. فبارك الله له فيها وتناسلت من حوله بالبركة والخير ..

والآن .. وقد اتسع سجل الزمان للكثير .. وابتعدت بي الصورة قليلاً ! قد أسمح لنفسي أن أقارن بين هذه النماذج من تجار شرفاء أمثال صالح فنشة ، وبين تجار هذا الزمان ( ! ) الذين لم يقفوا عند مشارف الحرام فحسب .. بل تجاوزوه إلى ما وراء الزقوم !.. وأقبلوا على المال وحطام الدنيا الزائل ، يجمعونه بشتى الطرق ، لا يدرون من أين اكتسبوه ، ولا كيف أنفقوه .. فشتان بين حرفة باركها الله ، واتخذها النبيون طريقاً للكسب الحلال ، وبين تجارة تقوم على اغتصاب القوت واكتناز حاجات الناس يخزّنونها ليرفعوا من ثمنها وقت الحاجة إليها .. ولم يعلموا ( بل لعلهم تناسوا ) أن لله خزائن السموات والأرض ..

وعود على صالح فنشة ، الذي أحسب أنه مستقيم حساً ومعنىً .. فلم يعرف شراباً سوى الماء القراح ( بالرغم من توافر اللاقبي الحلو ) الذي أباحه الشرع والمجتمع والذوق و ( البروستيج ) الاجتماعي في ذلك الزمان الحلو ، الذي يقبل كل حلو .. فكان حلالاً زلالاً .. ولم تقده خطواته ـ بالرغم من تجواله وكثرة الأماكن التي وطأها ـ إلى غير ما يرضي عنه الله وعباده .. هي الاستقامة ـ إذن ـ .. من الدكان .. إلى البيت .. إلى المسجد !..

ولا زلت ـ بالرغم من بعد الزمن ـ أذكر ذلك المفتاح الحديدي الكبير الذي يشبه في شكله مفاتيح القلاع الضخمة في القرون الوسطى التي تحتفظ بها المتاحف .. هو ليس مفتاحاً واحداً ، بل له توأم شقيق يلتقي معه في سير من الجلد .. ونظراً لثقل حجمه ، فلا يتسع له جيب ( الفرملة ) أو ( الكبوط ) .. لذا فقد تعين على الحاج فنشة أن يضعه على كتفه .. كل مفتاح على جهة .. لكنه ليس مفتاحاً من مفاتيح ( قارون ) التي تنوء العصبة أولي القوة بحمله .. بل كان من مفاتيح الخير التي آتاها الله لصالح فنشة وأمثاله .. وإن فاتك نصف النهار ، فعليك أن تنتظر حتى انتهاء صلاة العصر بالمسجد ، كي يفتح فنشة دكانه ويمارس تجارته .. فيقضي ويقتضي .

كما عُرف عنه ـ رحمه الله ـ أنه كان من كبار دعاة محاربي التدخين .. ومن المغالين في ذلك .. ولم يكن يتورع في أن يأمر زبوناً بالتدخين خارجاً ، أو حتى ضيفاً على مائدته ، أياً كانت درجته بالتوقف عن التدخين ، أو التدخين خارج ( المربوعة ) إن لزم الأمر .. وخلال سفرياته خارج المدينة كان يتوخى سيارة الأجرة التي تخلو من المدخنين .. وحدث مرةً أنه كان مسافراً إلى بنغازي في سيارة المرحوم ( سليمان الدنيني ) أشهر سائقي الأجرة في الستينيات ، وقد جلس في الكرسي الأمامي .. وكان الجو شديد البرودة .. فسوّلت لأحد الركاب نفسه بإشعال سيجارة فجّرها بين الركاب ، فطلب منه الحاج صالح إطفاءها ، فرفض الراكب الامتثال لأمره ، فما كان من الحاج صالح إلا أن فتح زجاج النافذة ليتسلل البرد القارس ويسري في عظام الركاب ، فثار الجميع وطالبوا الراكب بإطفاء السيجارة .. فأطفأها .. ( وما أدراك .. لعلها كانت آخر سيجارة يطفئها ..!! ) .

ولم يكن ـ يرحمه الله ـ سباقاً إلى ترك المنكرات .. بل إلى فعل الخيرات .. ولم يكن من حمائم المساجد وعمًارها فحسب .. بل تشهد له معظم مساجد اجدابيا بالخير ، حين كان يتفقدها ، ويصلح من شأنها ، ويشرف على تأثيثها بما وقر في نفسه أنها بيوت الله في الأرض .. نرجو من الله أن يبني له بيتاً في الجنة ويجمعنا به في مستقر رحمته .. ولم تتوقف خدمته لبيوت الله إلى هذا الحد .. بل بنى مسجداً كبيراً تسبح له فيه الملائكة ـ إن شاء الله ـ وتستغفر له ، كما وعد الرحمن عباده الذين اتقوا .

وأثناء مرضه الذي توفًي فيه عاده أحد محبيه ودعا له بالشفاء وطول العمر ، فضحك صالح فنشة وقال له : لا تدعو لي بطول العمر .. بل اسأل الله لي حسن الختام .. وكان دائم الدعاء إلى الله أن يقبضه إليه ليلة الجمعة ، فاستجاب الله له كما وعد ، وقُبض ليلة الجمعة التي صادفت أول أيام عاشوراء .. ذلك اليوم الذي كان يشهد لصالح فنشة بإيتاء الزكاة وإيقام الصلاة ..

اللهم إنا نسألك حسن الختام .. وأن تغفر لهذه النماذج الطيبة .. وتجعل الجنة متقلبهم حتى تلقاهم وأنت راضٍ عنهم برحمتك التي وسعت كل شيء....


سجل دخولك و علق على الموضوع

 

روابط على موقعنا

 

مواضيع ذات علاقة

  1. ماذا تعرف عن العلماء في ليبيا

  2. الحاج صالح فنشة المجبري


جالو ليبيا
اخر تحديث: 09/01/2012م.