لا
أنكر استلطافي لأسلوب صادق النيهوم ، فمنذ عرفت صحيفة الحقيقة
في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين الماضي
، وأنا حريص علي ألا يفلت مني عدد من أعدادها , ليس لأنها ثرية
وخصبة فحسب
, بل لأن صادق النيهوم يتصدر صفحاتها
الأدبية , بكلماته التي تسفه الظواهر الاجتماعية الممقوتة ,
بأسلوبه الرمزي الساخر , تناول المهم منها وغير المهم .. ينقلك
من سوق الحشيش إلى سوق الجريد أو جليانا , ثم يمكث علي الشاطئ
, يتحدث علي لسان النوارس والسنونو وأسراب الطيور المهاجرة ,
يصور المواقف منها عندما كان يضع جانبا حكايات شخصياته المفضلة
أو يطير بخاطره إلى الهند لشأن يخص المهاتما غاندي وعنزتـَه ..
إنه لا يستوقف الكلمة كثيرا, بل يتخذ أسلوب التداعي الحر في
تصوير لحظة الحدث .. إنها موضوعات عثر عليها في أعماق المجتمع
, تخرج من القاع , تستلطف الكثير منها .. ؛ وما يزال الكثير من
نقده الاجتماعي يمارس بعناية , وكأنه من الطقوس الدينية ..
ويهزني ما يذهب إليه من خيال في موضوعاته , فقد يثير فيَّ رؤىً
بعيدة وقريبة ؛ يتحدث عن أشياء أحبها وأجاريه فيها , وأشياء
أعرض عنها وأتحاشاها وأحرج أن أتحدث فيها , ولكنها بأسلوبه تمر
مر السحاب , وكأن شيئا لم يحدث .. وكأني بصادق النيهوم قد دخل
قلوب الناس قسرا , لأنه أوقعهم في الجدل عندما مسّ حياتـَهم
الداخلية , حركهم واستفزهم ومس ترابطهم الاجتماعي بالتحليل
والتشريح المغلف بالرمز والسخرية .. رجلٌ قد استقر في الأذهان
حتى كتب عنه إثر وفاته ثلاثة عشر أديبا في بحر أسبوع واحد ,
بعد أن كادت كتاباتُ صادق النيهوم يغطيها الغبار أمام الأجيال
اللاحقة لجيله , سوى ما يتراءى من بعيد في أذهان مجايليه الذين
يحبون القراءة , أما ما عداهم فجهلهم بوجوده كجهل الجيل الحالي
بأدبه .. فلسبب أو لآخر قد هجرنا صادق النيهوم بعد أن ألفنا
أسلوبه ردحا من الزمن.
عرفته مجلة الناقد , وعرّفت به من جديد
، أبرزت اسمه للجيل الذي لم يعرف عن إبداعاته السابقة شيئا سوى
ما يحتفظ به بعض القراء والمثقفين القدامى في خزائن كتبهم ..
لم يطلع الجيل الجديد علي أدبه عندما كان يتناول بالنقد أعماق
المجتمع ساعتها , ويثور بالرمز الساخر علي الممارسات الخاطئة
في الفكر وفي العاطفة وفي المزاج .. عندما يذرع شوارع مدينة
بنغازي وأزقتها , فتختفي شخصياته وراء الفقيه والحافي والحاجة
امدلـلـة , وجارتهم التي نقشت على جبينها علامة (الفولكس) .
وحين غادر صحافتنا , جعلنا نفقد الكثير
من تطورات أفكاره و ثقافته , غير ما نجده موزعا هنا وهناك في
صحف أجنبية عن طريق الصدفة , إلا إنني أتحير في ما قاله في أحد
أعداد مجلة الناقد , من أننا ننظر إلى الإسلام نظرة رجل مات
منذ ألف وأربعمائة عام .. أو علاقة القصص القرآني بالأساطير ,
مع أن الإسلام في نظر نفسه وفي نظرنا يتجاوز الزمان والمكان ,
وأما القصص القرآني فيتميز بطابع المعجزة لا بطابع الأسطورة
بجانبها الخرافي .. فهو لم يثر ناحية يغلب عليها الجانب
التطبيقي كالصوم والصلاة كما فعل البعض , وإنما أثار ناحية
فكرية عقائدية , وربما كان له منفذ أو تفسير , فالرجل واسع
الثقافة , وقد قام بالرد على قضايا مماثلة حين خصصت له مجلة
الناقد صفحاتٍ للرد علي تساؤلات القراء .
صادق النيهوم له دراية بالنثر والشعر
..علي الفزاني ــ هذا الشاعر الكبير ـ كان يأنس برأي صادق
النيهوم ( 1 ) .. صادق النيهوم له ذائقته الخاصة في المقالة
وفي القصة وفي الشعر .. ولو أراد أن يكون شاعرا أو قاصا خالصا
لكان .. كان في القصة يضرب على أوتار معينة ، ويفعل ذلك في
المقالة أيضا ..
القصة عند صادق النيهوم كانت تجنح إلى
عمق آخر .. لقد كتب القصص للأطفال ، كان في استطاعته أن يكتب
لغيرهم .. وحتى تلك القصص الطفولية لا تنجو من نظرته الخاصة
نحو الناس وما يحيط بهم من أحوال وأسرار يبدون بعضها ويخفون
كثيرا منها ، هناك قصد آخر يختبئ وراءها ، في قصص الأطفال كان
يحيلنا إلى شيء وراء الطفولة .. إنه يبعث خطابا موجها للصغار
والكبار معـا فليقرأ الصغار القصة وليقرأ الكبار ما بين السطور
.. ولعله لمّح في القصة الأولى من مجموعته بقوله :"فليسمع
الأطفال .. ليسمع الرجال الصغار الواقفون فوق كل تلة رملية
قاحلة لكي يشاهدوا مراكب السلطان.." (2 ) .. فللأطفال الحكاية
وللكبار تحذير من أن يكونوا صغار العقول ، كما لهم هذا السرد
والبناء اللغوي القوي ، وهذا التفصيل الواسع المتمهل للحدث ،
ولولا ذلك لكان يكفي الصغار صفحة حكاية عن أرنب أو غزال ..
لكنه يريد أن يقول ، يريد أن يحفـّز ويستفزّ عقولا أخرى غير
عقول الأطفال.. قصصه ومقالته تحتوي على رسائل موجهة للبسيط
والحازم وإلى مجتمعات وحكومات ومناصب.
نجده في قصة (عن
مراكب السلطان) يكثـّف العبارة فتتراءى عدة ُ معاني ، منها أنه
ركـّز على واحة (جالو)
كموقع يريد من العقول أن تجدد معرفتها به كطريق قديم للقوافل ،
وقد يتشظى من ذلك معنىً آخر ، وهو أن هذه الواحة التي كانت
جميلة أصبحت مهملة إبّان الزمن الذي كتب فيه النيهومُ قصته
..إنه يضرب أمثالا غير مباشرة عن الحمق وسوء التصرف والأنانية
وسوء استغلال السلطة فيختار مكانا أيَ مكان لتجري فيه الأحداث
، وليس بالضرورة أن تكون (جالو)
.. إنه يريد بهذه الفنتازيا اللغوية السخرية بحياة الحكام
والسلاطين ومن يتولى أيَّ أمر قيادي شبيهٍ بذلك .. ويسخر أيضا
من غباء الناس وقلة حيلتهم أمام مرؤوسيهم ، فنجده يعرّض
بالحاشية القريبة بأنها تفعل كل شيء في سبيل إرضاء الحاكم حتى
ولو نال ذلك من هيبتهم وشرفهم ، فيخترع حادثة عند حضور أحد
الضيوف إلى سلطان
جالو فيقول :"كان السلطان قد بدأ يقضم أظافره ، وكان
يمارس هذه العادة الرديئة أمام الغرباء دائما إلى حد أن
الديوان قرر أن يكتريَ له وصيفا خاصا ليقضم أظافر السلطان ،
ولكن الوصيف لم يكن حاضرا إذ ذاك ، وقد قرر السلطان أن يقضم
أظافره بنفسه "(3 ) .. وعرَّض في تلك القصة بالملوك والسلاطين
بتكراره لعبارة قصر السلطان المرمري في واحة
جالو .. قصر
مرمري وواحة ، يريد أن ينبّـه الأذهان إلى هذه المفارقة ، بأن
الحاكم في واد والشعب في واد آخر ، شعب فقير وحاكم مترف .
وعقاب الرجل
الأعرج في القصة بالجلد يرمز إلى سوء تصرف السلطة تجاه
إيجابيات بعض الأفراد .. ففي حين كان هذا الأعرج هو المفكر
الوحيد في جالو
إذ هداه تفكيرُه إلى زراعة أشجار النخيل في هذا المكان الملائم
لها .. كما يرمز تحشيد مائة فارس من أجل القبض على رجل أعرج
عاجز إلى أن السلطة تعطي للأشياء التافهة حجما كبيرا وتغمض
عينها عن أشياء مهمة كتبديد الأموال فيما لا نفع وراءه ،
متمثلا في القصة في صناعة المراكب التي لن تسير مترا واحدا
..كما يشير في القصة إلى استغلال الدين بطرق غير مشروعة ، أو
إلى الحق الذي يراد به باطل ؛ فكان فقيه السلطان يشرف بنفسه
على مشروع بناء المراكب الفاشل ، وكان يشجع النجارين ويقرأ لهم
آيات من سورة نوح ( 4) هذا جانب يسير مما استحضرني من آثار
صادق النيهوم وأسعفتني به الذاكرة عن تلك الفترة وما أكثر ما
نسيت من إبداعات ومواقف كانت له , فالرجل غادرنا منذ زمن ليس
بالقصير , واختفت مؤلفاته من المكتبات , ولم يعد الحوار يذكره
إلا من بعيد , لكنه ذكر ملئ بالإشراق والألمعية عن هذا الكاتب
الذي شغل الناس وتركهم في حيرة مما يقول , ما بين متحير ومندهش
ورافض , لكنهم جميعا يسلمون بأنه فنان كلمة وربيب ثقافة .
نشرت بموقع
الاجدابي بتاريخ 07-06-2009
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النيهوم والفزاني ـ سالم الكبتي ـ مجلة الفصول الأربعة
العدد 94 لسنة 2001 ص 73.
(2) من قصص الأطفال ـ صادق النيهوم ـ تالة للطباعة والنشر
2002 ص19.
(3) السابق نفسه ـ ص 13.
(4 ) نفسه ـ ص18.