• الرئيسية • اخبار • مواضيع علمية • مواضيع ادبية • البوم الصور • روابط مختارة • سجل الزوار • المنتدى •

القبائل الليبية و الجغرافيا و الهجرة

الجزء الأول

فــاتحـة

أقول وبعد حوارات تاريخية مع بعض كبار المؤرخين، ونصائحهم العملية، وأخص بالذكر البرفسور جيوفي والدكتور الدجاني والدكتور زيادة بأنه حري بنا أن نبدأ عجلة التتريخ لمن هم من أصول ليبية في المهجر - ولا نستطيع القول انهم لازالوا ليبيين - وخاصة أولئك الذين هجروا الوطن منذ مئات السنين. والغرض هو استخراج العبر والدروس ونستفيد من خبراتهم وتجاربهم ونسقطها على واقعنا.

 

ونحن بدورنا في هذا السياق رأينا نفض الغبار عن ما هومغمور من تاريخ لأخوة لنا امتحنوا، فوجدوا في الهجرة مخرجاً لابتلاءاتهم ومشاكلهم في القرون الفائتة، ولكننا مازلنا نعيش إرهاصاتها.

 

إن هذه الدراسة ما هي إلا محاولة متواضعة جداً لملمة نتف من المعلومات من أسماء وأماكن وتواريخ وأحداث مفصلية عن من هم من أصول ليبية في المهجر (مصر وتونس وتشاد) نقلاً عن دراسات ميدانية لأساتذة آخرين مع ما لمسته في زيارات خاصة لي في بعض هذه الدول العربية. ولا نستطيع القول بأننا قمشنا الموضوع من كل جوانبه، ولا نقول بأننا قمنا بالاستيفاء المنشود في بحث كهذا. ولكننا أردنا وضع إشارات عسى أن تكون باهرة وملفتة للنظر، وتسليط أضواء ساطعة على بعض ممن هُجر بسبب أو لآخر. ونحن نسعى في هذه السطور للتنويه إلى أماكن وساحات تواجدهم وثقلهم فيها. ويأتي هذا كله تتويجاً لما سبقنا به المختصون بدراسة حال وأحوال القبائل الليبية التي استقرت في المهجر أو عادت لأرض الوطن. ومن أبناء هذه القبائل أساتذة [2] اخذوا على عاتقهم مشقة تدوين تاريخ ما مر به الأجداد والأباء، ونحن نكن لهم فائق التقدير والاحترام، ونقر لهم بالفضل والمنة علينا خاصة أولئك الذين عاصروا وعرفوا بطريقة أوأخرى معاني الهجرة والعيش في المهجر، فأليهم جميعاً نهدي بحثنا هذا.

 

القبائل والجغرافيا والهجرة

 

الهجرة من اعظم الأحداث التاريخية في تاريخ البشرية، ولنا في هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العبرة الكبرى، لذلك اعتبرها أسلافنا بداية لتاريخنا. والهجرة قد تكون اختيارية يأتيها الإنسان لغاية في نفسه، وبكامل إرادته وحريته، وقد تكون اضطرارية للفرار من خطر محدق كما حدث للمسلمين الأوائل في مكة المكرمة. وربما يبعد الإنسان عن ارض الوطن، ولكن لا يبعد الوطن عن وجدان الإنسان أبدا. وفي تراثنا الإسلامي ان وطن المؤمن هوالجنة، التي اخرج منها أبواه عليهما السلام، وهذه الأوطان الدنيوية عبارة عن شجرة يستظل بها السابل، ومن ثم العودة للحياة في الوطن السرمدي [3] الموعود. يقول ابن القيم رحمه الله في قصيدته الميمية :

 

فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيـها المخيم

ولكننا سبي العدوفهل ترى نعـود إلى أوطـاننا ونسـلم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهـومغرم

وأي اغتراب فوق غربتها التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم

 

ومع هذا يقترن مفهوم الوطن بمعانٍ عدة، ويتبلور في أطر مختلفة منها: الدولة ذات السيادة الجغرافية تارة، والذكريات والحنين للوطن في ديار الهجرة تارة أخرى. فمفهوم القبيلة للوطن في ليبيا اقتصر على الأرض التي تملكها [4] ، وفيها مضارب خيامها، ومراعي دوابها. وبتعدد القبائل وتكتلها، والتحام "أوطانها" جنباً إلى جنب خرج علينا هذا الوطن الذي نسميه اليوم ليبيا. علماً بان اسم ليبيا كان يطلق على قارة أفريقيا كلها باستثناء جنبات وادي النيل بمصر. كما كانت الأقوام القاطنة في هذه الرقعة ما بين مصر والمغرب الأقصى تسمى بالليبيين، الذين تميزهم بشرتهم البيضاء عن باقي سكان أفريقيا.[5]

 

فمرت هذه الرقعة الترابية "ليبيا اليوم" بعدة أسماء ومسميات، وتمددات وأنكمشات جغرافية عبر الأزمنة. فتاريخ ليبيا يرجعه البعض إلى اكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، كما عُرف بعدة أسماء منها لوبيا [6] وبلاد البربر وطرابلس الغرب وأخيراً ليبيا كما هي معروفة الآن. [[7

 

وحدود ليبيا القطرية التي نعرفها اليوم ابتليت بكثير من المد والجزر مع دول الجوار فكانت طرابلس تنكمش إلى ما هي عليه الآن ومن ثم تمتد مرة أخرى لتصل بحدودها إلى قابس وجربة في تونس. [8] بينما برقة بعد انكماش قد وصلت في زمن من الأزمنة إلى مريوط الحمام غرب الإسكندرية [9] … وهكذا. كما تفصل طرابلس عن برقة ما يزيد عن خمسمائة كيلومتر (ثلاثمائة ميل) من الخلاء الصحراوي في حوض سرت الذي تعانق فيه رمال الصحراء مياه البحر الأبيض المتوسط. وتعتبر صحراء سرت من أعظم الحواجز الطبيعية في العالم. حتى قيل إن الرحلة من طرابلس إلى تونس أيسر وأقرب منها إلى برقة، ونفس الشيء مع برقة بالنسبة لطرابلس. [10] في حين شكلت الحمادة الحمراء والصحراء حول مرتفعات الهروج [11] مساحات فاصلة لفزان عن طرابلس وبرقة، وكل الساحل.[12]

 

ويبقى القول إن الوطن يستحق كل تضحية، وحبه من أهم دواعي الاستقرار والسلام، ولكن انعدام الأمن وشح الموارد، واختلال موازين العدل فيه مبررات كافية وقوية للاغتراب والهجرة كما امرنا الله تعالى.[13]

 

ولذلك كانت الهجرة ميسرة لمن أرادها، فلم تكن الحدود بين العرب والمسلمين مرسومة بالشكل الذي نعرفه الآن، لاسيما القبلية منها. فعلى سبيل المثال ما يعرف بمنطقة الطوارق الآن قسمت بين دول رئيسية عدة هي: ليبيا والجزائر ومالي والنيجر ونيجيريا. فاصبح الطوارق مقسمين بين عرب الشمال وأفارقة الجنوب، بينما هم من سكان المنطقة الأصليين الأمازيغ. وظلت الحدود بين ليبيا وجاراتها متداخلة وغير مرسومة حتى الآونة الأخيرة، واعني هنا الخلاف حول شريط اوزوالذي فصلت فيه محكمة العدل الدولية في 13 إبريل 1994م، وبه فازت تشاد ورضت ليبيا بالحكم، ورسمت الحدود بصورة نهائية بين البلدين. ولكن هناك من الحدود ما رسمته الدول الاستعمارية كمفاوضات الإنجليز والطليان لرسم الحدود الليبية المصرية عام 1935م، سبقتها التسوية مع السودان حول مثلث سارة عام 1934م. واتفاقية 1956م بين المملكة الليبية والسلطات الفرنسية حول الحدود الجزائرية الليبية. [14] ولكن سبقهم بذلك حكام المنطقة من المسلمين أنفسهم حيث اتفقت حكومة يوسف باشا القرمانلي وحمودة باشا، باي تونس (1781-1813م)، الذي بموجبه أكدا على الأخوة وحسن الجوار، واتفق الطرفان على ترسيم خط الحدود الفاصل بين الايالتين بمرسوم أصدره التوانسة سنة 1806م، وهذا التاريخ يعتبر من التواريخ الأولى في ترسيم الحدود الليبية الحالية. [15] كما ان هذا التاريخ الأخير يؤكد على ان قضية التقسيم سبقت الاستعمار الأوروبي بكثير وخاصة الفرنسي الذي سبق الجميع في احتلاله الكامل للجزائر سنة 1830م.

 

الرقعة الجغرافية التي تتكون منها ليبيا كبيرة جداً مقارنة بكثافتها البشرية، فمعظمها صحراء جافة (90%) باستثناء بعض الجيوب الزراعية المتمثلة في الواحات والحطايا. [16] أما الشريط الساحلي فيسكنه الحضر في مدن رئيسية مثل طرابلس وبنغازي ودرنة وزوارة وغيرها من الجيوب الساحلية. وبالرغم ان ليبيا لديها من الساحل ما لا تملكه غيرها من دول شمال أفريقيا إذ يبلغ طوله حوالي 1900كم، فان معظم الليبيين يعيشون بعيداً عن البحر ويموتون أحياناً من الجوع نتيجة الجدب والقحط ولا يعرفون كيف يأكلون من البحر، حتى كادت أطباق الأطعمة الليبية تخلومن الأسماك ومشتقاتها باستثناء بعض المدن الساحلية كطرابلس وبنغازي ودرنة وزوارة. بل هنالك من البدووسكان الجنوب الذين لم يذوقوا طعم الأسماك في حياتهم. وهذه لها علاقة بالعقلية البدوية التي تميل إلى الصحراء اكثر من غيرها.[17]

 

ويستشهد الأستاذ عبد السلام قادربوه بدراسة له عن عالم المأثورات الشعبية بقرية شط لبدين الواقعة جنوب غرب مدينة بنغازي فيقول:

 

"منطقة شط البدين … والتي لا يستطيع المرء أن يجد فيها صياداً محترفاً إلا بصعوبة مع أنها تحمل اسماً متصلاً بالبحر وهو(الشط) … ومع وجود المنطقة بالفعل على امتداد شاطئ طويل يمكن ان يدر خيرات كثيرة … ماذا نجد في هذه المنطقة عوضاً عن ذلك ؟ … إنا نجد تجمعات بشرية يتركز اهتمامها بالزراعة … وتنال الزراعة الموسمية المعتمدة على مياه الأمطار كالقمح والشعير .. النصيب الأوفر، كما نجد من السكان اهتماماً بالرعي يأتي في المرتبة الثانية بعد الزراعة، وقد يثير الدهشة أن يشاهد المرء في فصل الصيف؛ بيتاً بدوياً على شاطئ البحر في مثل هذه المناطق، ولكن ساكنيه لا تربطهم بالبحر أية صلة.".[18]

 

واذا ما تمعن المرء في تشخيص البنية المعمارية للمدن والقرى الليبية يرى أنها تنساب بصورة عفوية إلى القبلة (أي الجنوب والجنوب الشرقي) صوب الصحراء حتى يومنا هذا. فمثلاً مدينة مصراتة كانت مفصولة عن منطقة قصر حمد التي تعتبر النافذة البحرية لها على البحر الأبيض المتوسط. واذا ما تمعنت في الامتداد السكني لمدينة بنغازي تلاحظ أنها امتدت جهة القبلة باتجاه منطقة بوعطنى وما على طرفيها.

 

والجغرافيا الليبية ومناخها فرضتا حدوداً طبيعية بين أقاليمها الثلاث (طرابلس وبرقة وفزان)، كما ان هذه الأقاليم تمتعت نسبياً بتجارب تاريخية اختلفت بعضها عن بعض مما وسع الهوة بينها حتى وصول القرمانليين الذين رسخوا مفهوم الدولة القطرية بالنار والحديد. [19] فطرابلس كانت دائماً علاقتها بتونس وخاصة جنوبها أقوى منها ببرقة وفزان. وبرقة ارتبطت تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً بمصر وسكان الصحراء الغربية تحديداً اكثر منها بطرابلس وفزان. والأخيرة ارتبطت دائماً بالسودان حتى كادت البشرة السمراء والسحنة الأفريقية تغلب على بعض مناطق الجنوب. [20] وهذا كان جلياً في الهجمة الإيطالية الاستعمارية على ليبيا حيث اتجهت القبائل للمناطق التي تعرفها افضل وترتاح إليها. فاتجه الطرابلسية إلى تونس بينما البرقاوية إلى مصر والفزازنة إلى تشاد.

 

والدولة القطرية التي نشأت في القرنين الماضيين مزقت وقطعت أوصال القبائل التي لم تعرف تاريخياً حدوداً لها، وخاصة الرحل منها كقبائل النوايل وأولاد علي العربية، والطوارق والتبوالبربرية. وهذا التمزيق لم يقتصر على ليبيا وجاراتها فقط بل شمل المملكة العربية السعودية على سبيل المثال وجاراتها من اليمن وبقية دويلات الخليج والعراق وسوريا والأردن وفلسطين. [21] وفي حقيقة الأمر هذا التمزيق سمة عالمية اكثر من كونها إقليمية، واذا ما درست أوروبا وجغرافيتها تجد ان تعقيداتها تكاد تفوت ما نشكومنه. بينما نحن في المغرب الكبير نتمتع بوحدة اللسان والدين والمذهب والتاريخ والمصير، تجد الأوربيين الذين يشكون من تعدد اللسان والعقيدة وغيره مما ذكرناه، قد تعلموا كيفية التعايش والتعامل مع هذه الفوارق. ولعل نموذج الاتحاد الأوروبي هوأحد تلك الحلول المقترحة لهذه المعضلات الإنسانية.

 f_najem@yahoo.co.uk

[1] نشر هذا البحث على صفحات القدس العربي - لندن - على مدى اربعة أيام من 18 الى 21 كتوبر 2003م.

كما نشرته مجلة Libyan Studies باللغة الانجليزية الصادرة عن الجمعية البريطانية للدراسات الليبية في عددها 34 لسنة 2003م بلندن.

[2] د. ابراهيم احمد أبو القاسم ود. سعيد عبد الحمن الحنديري وأ. خيرالله فضل عطيوة وأ. محمود عبيدة شاهين الفردي وغيرهم من أهل التخصص والفضل.

[3] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا : يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال: "ما لي وما للدنيا ؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب أستظل تحت شجرة ثم راح وتركها". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. سنن الترمذي 4/588/2377. سنن الترمذي ، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، تحقيق الشيخ أحمد شاكر وآخرون ، دار التراث العربي ، بيروت.

[4] بازامه تاريخ برقة في العهد القرمانلي صـ 333.

[5] بازامه – ليبيا: هذا الاسم في جذوره التاريخية صـ 31-32، 89-90.

The new Oxford illustrated Dictionary (1976), تخت مادة Libya p 973.

[6] بعيو – المجمل في تاريخ لوبيا صـ 1-9.

راجع نفس المصدر – هامش صـ 1-2.

[7] البرغوثي – تاريخ ليبيا من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر العثماني صـ 13.

بازامه – ليبيا: هذا الاسم في جذوره التاريخية صـ 95-96.

[8] بازامه – سكان ليبيا في التاريخ عصور ما قبل الإسلام صـ 173.

[9] بازامه – تاريخ برقة في العهد العثماني الأول صـ 36-37.

البرغوثي – تاريخ ليبيا من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر العثماني صـ 90-91.

[10] البرغوثي – تاريخ ليبيا من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر العثماني صـ 15.

[11] تقع في الجنوب الغربي من زلة وهي عبارة عن هضاب سوداء القمم، وبقايا صخور صحراوية وعرة استخدمها المجاهدين وخاصة من دور المغاربة كما ملاذ منيع.

[12] شرف الدين مدخل إلى تاريخ طرابلس الاجتماعي والاقتصادي (1711-1835م) صـ 239.

[13] الميلاني – وطن والمواطنة والوطنية مجلة المعهد عدد الثالث، 2001م صـ 28.

[14] حمدان – الجمهورية العربية الليبية (دراسة في الجغرافيا السياسية) صـ 81-90.

[15] جحيدر – آفاق ووثائق في تاريخ ليبيا الحديث (هامش) صـ 179.

[16] الحطايا (الحطية) هي عبارة عن مناطق منخفضة في الصحراء فيها الماء قريب من السطح تنمو فيها نباتات خشنة تعد طعام للإبل مثل مناطق الصحابي والخفاجي وتاقرفت.

[17] قادربوه – مقاعد أصحاب الصوب: رحلة في عالم الماثورات الشعبية صـ 28-29.

[18] قادربوه – نفس المصدر صـ 28.

[19] شرف الدين مدخل إلى تاريخ طرابلس الاجتماعي والاقتصادي (1711-1835م) صـ 239.

[20] شرف الدين – مدخل إلى تاريخ طرابلس الاجتماعي والاقتصادي (1711-1835م) صـ 242.

[21] الزوي – البادية الليبية صـ 278.

 

الجزء الثاني

1- مسببات الهجرة إلى خارج ليبيا

 

كانت دول الجوار – ومازالت - كمصر وتونس وتشاد والجزائر ومالطا بل حتى تركيا امتداداً لليبيا في التجارة وصلة القرابة بين قبائلها وعائلاتها وكذلك ملجأً في النائبات. ولكن لعبت كل من مصر وتونس وتشاد دوراً متميزاً على وجه الخصوص في العلاقات الليبية الداخلية، سواء بين القبائل، أو القبائل والحكومة من جهة، والخارج من جهة أخرى. فكن يجرن كل من يلجأ إليهن من حكام ومحكومين كلما اشتدت الضوائق. وأبرزها لجوء علي باشا القرمانلي الأول، والي طرابلس، وأسرته إلى تونس بعدما استولى علي برغل، المعروف بالجزائري،[1] على طرابلس منهم عام 1793م. فاستنجد الباشا القرمانلي بحكام تونس، فهب جيشهم للنجدة، وسرعان ما رُد للقرمانليين ملكهم في طرابلس بعدما طُرد المغامر برغل إلى غير رجعة عام 1795م. كما احتمى احمد أخو يوسف باشا القرمانلي بمحمد الألفي بك في مصر اثر خلاف بينه وبين أخيه، وبقى هناك حتى توفي في مصر عام 1811م. حتى ان ابن يوسف باشا، عثمان، عندما أحس بالخطر في ليبيا فر إلى مصر ووجد هناك الملجأ الآمن حتى وفاته في الإسكندرية. ويقول أستاذنا الكبير بازامه بان النائب استفرد في منهله دون غيره عندما روى ان يوسف باشا القرمانلي، في أخر أيامه وعندما تفاقم أمر الثوار ضد حكمه وحصارهم المحكم لطرابلس، وكذلك رفضهم القاطع للخضوع له اضطر للنزول عند رغباتهم والتنازل لابنه علي ليخلفه في الولاية. ثم طلب يوسف باشا النجدة من حكام تونس، ولكن تونس رأت من الحكمة ان لا تتدخل في ما يشبه الحرب الأهلية، نظراً لتعقيداتها وتورط القبائل في تلك الثورة وتأجيج نارها. وبالفعل تنازل يوسف باشا لابنه ونصبه والياً لطرابلس في 12 أغسطس 1832م.

 

كون المجتمع الليبي قبلي محض وتغلب عليه الصبغة القبلية بما لها وعليها، فانه عبر التاريخ أوجد ممثلين له في دول الجوار يستنفرهم ويستنجدهم اذا ما احتاج إليهم أو يلجا إليهم اذا ما تطلب الأمر. ولعل من مسببات الهجرة الرئيسية تلك السياسات الهوجاء سواء من الحكومة أو نتيجة جور العصبيات القبلية بعضها على بعض. ولذلك كثرت الفتن والغارات وعمت الفوضى بالثارات مما دفع بالمجتمع البدوي إلى حافة الهلاك، ومع مرور الزمن وتكرر الهجرات وجد كثير من هذه القبائل ملاجئ وتجمعات قبلية لها في دول الجوار خرجت قبلها من ليبيا وتركت وراءها بعضاً منها، حتى اصبح من المستحيل ان تجد أحداً من ذوي الأصول الليبية في دول الجوار ليس له علاقة دم أو وشائج قربى في داخلها. وخير دليل على ذلك بعض أولاد سليمان بتشاد والقبائل الطرابلسية التي يستحيل علينا حصرها في تونس، وأولاد علي والجوازي والفوايد بل بيت خضرة من قبيلة البراعصة الذين ظلوا يتطلعون للعودة إلى ارض الوطن. وبالفعل منهم من رجع عبر العقود الفائتة التي تلت الاستقلال في منتصف القرن المنصرم ونعتوا بـ "العائدون" و"الصاد شين" (اختصاراً لعبارة الصحراء الشرقية وكناية لقبائلها) وغيرها من النعوت التي لا تليق بتاريخ هؤلاء الرجال، ومنهم من ينتظر، وكثير منهم وخاصة الأجيال الجديدة اكتفت بكون أصولها ليبية ولا تفكر بعد بالعودة.

 

ولعل أكبر أسباب الهجرة وخاصة في العهد القرمانلي ما مرت به ليبيا من نكبات طبيعية غلب عليها طابع القحط والجدب والجفاف والأوبئة الفتاكة وما ترتب على ذلك من هلاك للبلاد وفناء للعباد. ابتليت البلد بأربع أزمات قاسية، وخاصة في المنطقة الغربية، حيث أصيب إقليم طرابلس بالقحط الذي أدى إلى مجاعة بدأت 1767م واستمرت حتى عام 1771م فهاجر اكثر من أربعين ألفاً من أهالي المنطقة إلى تونس ومصر. ومجاعة أخرى عام 1776م التي كادت ان تفني البلاد من سكانها. ومن ثم مرت بالبلاد موجات من المجاعة والقحط والأمراض اكتسحت ولاية طرابلس وأعقبها طاعون قاتل خلال في صيف عام 1785م. ولعل في وصف الآنسة توللي، أخت القنصل الإنجليزي - ريتشارد توللي - في طرابلس ، في كتابها "عشر سنوات في بلاط طرابلس" صورة عاكسة لضحايا هذه الأوبئة الفتاكة تفسيراً للهجرة التي كانت هروباً من الموت القادم لا محال، فتقول:

 

"بكاء الناس ونحيبهم في المدينة يمزق القلوب… وعند كل يوم يتم إخراج جثث الموتى لتجميعها. والرعب الذي تبعثه المواكب الجنائزية في القلوب تتزايد كل يوم. أما النسوة الطرابلسيات اللاتي كان المرء يراهن من قبل محجبات على الدوام، فقد اصبحن الآن صورة حية لليأس والقنوط وهن يهمن على وجوههن في الشوارع بشعور متناثرة ووجوه مكشوفة خلف نعُش ممن رزئن فيهم من أفراد أسرهن. ومنذ بدأ تفشي هذا الوباء اللعين توفي في هذه المدينة ثلاثة آلاف شخص، أي ما يعادل ربع سكانها تقريباً؛ وما يزال عدد الضحايا يزداد كل يوم".

 

وكان كل ذلك على مرأى ومسمع من الحكام القرمانليين العاجزين عن المساعفة، والغارقين في ملذاتهم.

 

كما أصيبت البلاد بالجفاف عام 1792م. وصلت حالة البلاد من اليأس والبؤس لدرجة انهم أكلوا المحرمات وكل مكروه، وطحنوا نوى التمر التي عادة تقتاتها بهائمهم، وأكلوه. وكان لهذه النكبات والكوارث الطبيعية أحياناً - وما صنعه الإنسان في بعض الأحيان - انعكاسات وخيمة سواء اجتماعية، حيث زعزعت المجتمع القبلي برمته وأدت إلى انقلاع أجزاء منه عن أرضه، أو اقتصادية، مما أزم الوضع السياسي في البلد. فتناقص عدد سكان البلد بصورة رهيبة سواء بالموت أو الهجرة فتردى الوضع الاقتصادي بتناقص المحاصيل الموسمية والمواشي التي كانت تمثل العمود الفقري للاقتصاد الوطني وبالتالي تقلص مقدار الجباية مما ترتب عليه تقلص مداخيل الدولة من الضرائب، فاضعف ذلك البلد بصورة عامة والحكومة بصورة خاصة. ولهذه الأسباب الاقتصادية هاجر كثير من قبائل الفرجان والقذاذفة والطبول والعبيدات إلى مصر بحثاً عن الحياة الكريمة.

[1] هو من أصل قوقازي من جورجيا جاء إلى الجزائر و عاش فيها ردحاً من الزمن حتى عرف بالجزائري. أما كنية البرغل فقيل انه كان يطعم جنده المرتزقة بالبرغل.

 

الجزء الثالث

2- مسببات الهجرة إلى خارج ليبيا

 

أما الكوارث التي أنزلها الإنسان بأخيه الإنسان في ليبيا فكانت الحروب القبلية وما جرته من ويلات. ولعل ليبيا فقدت فيها من الرجال ما لم تفقده جراء القحط والأوبئة. ويقول الأستاذ بازامه عن هذه الحروب القبلية:

 

"جاءت هذه في كتب التاريخ الحديثة على أنها حروب قبلية ساذجة الأسباب والمسببات، بينما هي في الواقع فتن سياسية لعب الدور الرئيسي فيها حكام البلد من الأتراك والقرمانليين الذين لم يكن يضيرهم أن يذهب الشعب ضحية لها ماداموا هم سيجنون ثمارها من مغانم وسلطان، ولن تتقزز نفوسهم من المكاسب التي يحققونها على حساب تلك الأشلاء المضرجة بدمائها".

 

ومن اشهر تلك الحروب القبلية الطرابلسية التي أهلكت الحرث والنسل احتراب قبيلتي فرجان (الداوون)[1] وأولاد سليمان التي أدت إلى خراب البلاد، وكان من نتائجها الوخيمة تهجير قسم كبير من الفرجان إلى تونس في نهاية القرن الثامن عشر (تقريباً 1767م). كذلك الاضطرابات الواسعة في جهة الزاوية التي حصدت أرواح المئات من قبائل ورشفانة والنوايل عام 1781م. فلقد أغارت عصابة من مائتي فارس من ورشفانة على نجع من نجوع النوايل ونهبوا عشراً من خيامه، كما كانت العادة بين العربان من غزو للسلب والنهب. فما كان من النوايل إلا أن حشدوا أربعمائة فارس وعدداً مماثلاً من التراسة[2] للثأر. وبالفعل هجمت النوايل على ورشفانة قرب جنزور مما استلزم من المحاميد النزول إلى ساحة القتال لنجدة حلفائهم الورشفانيين فزاد ذلك الطين بللاً، وقتل المئات من الجانبين، وازدادت الهوة والضغائن بين القبائل.

 

أما برقة فرأت من المآسي والتهجير الكثير ما طال قبائلها، ولعل ما جرى لقبيلة أولاد علي مازال ماثلاً أمامنا. فقد كانت قبيلة أولاد علي تقطن أجزاء من الجبل الأخضر، وخاصة حول مدينة درنه، وهضبة البطنان[3] ومن ثم دفعتها بقوة السلاح قبائل الحرابي بقيادة قبيلة العبيدات إلى شرق عقبة السلوم وبمساعدة السلطات العثمانية في طرابلس التي كانت تتحسس من علاقة أولاد علي بالمماليك في مصر، وكذلك قوة نفوذها في برقة مما تطلب من الولاة الأتراك في طرابلس أن يضعوا حداً لذلك. فجاء الرد فيما عرف بـ "تجريدة حبيب"، حيث جردت الحكومة عربان ولاية طرابلس من مناطق تاجوراء وزليطن ومصراتة وورفلة لنصرة حبيب العبيدي الذي أراد ان ينتقم لوالده، الشيخ عبد المولى الأبح، الذي قتله رجال أولاد علي غيلة. وانطلقت الحملة العسكرية وتم بالفعل إبعاد أولاد علي عن برقة بعد كر وفر مريرين. وبعد ما وضعت الحرب أوزارها وعاد السلم، اختلط دماء عرب الشرق بالغرب في الجبل الأخضر، وامتزجت فيها الأنساب[4]، وبذلك تم نسج مجتمع فريد جعل من مدينة درنة فيسيفساء لا يستطيع الإنسان وصف جمالها، حتى أن الأديب المؤرخ علي مصطفى المصراتي قال عنها:

 

"درنة ذات الوجه الحضاري والنضال جديرة بالدراسة والاهتمام ولا توجد صناعة الركاب وصناعة السروج إلا حيث الخيالة والفرسان…".

 

ومازالت التجريدة تعيش في أدبنا الشعبي ليومنا هذا حيث تحكي لنا مأساة قبائل غُرر بهم، فأقصوا بعدما وقعوا في براثن سياسات مبنية على أطماع الهيمنة. وبعد اندحار قبيلة أولاد علي، ولم يكن ذلك سهلاً لولا اجتماع قبائل الحرابي والغرب و الحكومة لإنجاز ذلك، اتجه أولاد علي شرقاً نحو النيل، ودفعوا من كان في طريقهم إلى ما وراء النيل وإلى الصعيد، وعمَروا المنطقة الواقعة ما بين العامرية (غرب الإسكندرية) والسلوم.

 

ولكن أخر عملية تهجير رأتها البلد ومازالت ماثلة للعيان هي تلك النكبة التي أصابت قبيلة الجوازي عام 1817م على يد قوات يوسف باشا متحالفاً مع اخوة الجوازي من العلايا (العواقير والمغاربة) وحلفائهم. فكانت المحصلة كانت طرد الجوازي نتيجة حروب كارثية قادتها ضد اخوتها العلايا عامي 1811 و1812م وضيقت فيها الخناق عليهم لدرجة انهم أكلوا طحالب البحر في حصارهم لهم في ملاذ الولي الصالح سيدي خريبيش، ويعرف ذلك الحصار الذي دام خمسة اشهر في الروايات الشفوية باسم "عقل خريبيش"[5]. ولنختصر أحداث القصة التي روى تفاصيلها المروعة الدكتور الإيطالي باولو ديلا تشلا الذي رافق الحملة كطبيب خاص لأحمد باي القرمانلي.[6] فلقد رأى الحكام القرمانليون ان قبيلة الجوازي أصبحت عبئاً على الدولة وحان وقت التخلص من بأسهم الشديد حتى تذعن لسلطان الدولة في برقة. فدعا احمد باي، ابن يوسف باشا القرمانلي، شيوخ قبيلة الجوازي الذين بلغ عددهم اكثر من خمسة وأربعون شيخاً في قصر الحكومة بمنطقة الِبركة لتوزيع البرانيس الحمر عليهم هدية من الباشا نفسه وتقديراً لولائهم له. ومن بعد دخول هؤلاء المساكين صحن القصر أعطى الباي الإشارة لمماليكه وخصيانه وحراسه للإجهاز على الجوازي. وبالفعل قتل جميع من دخل القصر ومن ثم انطلق جنود الحكومة مدعومين من القبائل التي كانت تخاصم الجوازي، وأعملوا سلاحهم في خيام الجوازي الذين كانوا في غفلة من أمرهم، فقتل من قتل من الرجال والنساء والأطفال، وهرب من هرب إلى مصر، وكان ذلك في شهر رمضان من عام 1817م.

 

بهجرة الجوازي انقلبت معايير القوة في برقة البيضاء وأصبحت قبائل العلايا أسياداً للمنطقة بعدما كانوا أتباعاً لإخوتهم الجوازي الذين استبدوا بهم، حتى أن امرأة من قبيلة الجوازي عايرت العواقير فقالت "ما نا عواقير علي خريبيش نعقلوا". ومن ثم والت قبيلة العواقير وحلفاؤهم المصراتية (سكان المدينة) الحكومة العثمانية عكس قبيلة الجوازي وبذلك ضمنوا لأنفسهم الريادة والسيادة في المنطقة.

 

هذا وقد هجا الصباغ، أحد رجازي وفرسان الجوازي، الأتراك (القرمانليين) وحلفائهم من العواقير وما اقترفته أياديهم، وحذرهم بأنهم سوف يرجعون يوماً ما إلى مواطنهم في برقة - فقال:

 

نوادعوك يا برقة اليوم جـلينا لكن انجوك انجـوك باذن الله [ [7

ولا تنتسي من البال يا الحنونه ولا ينتسى هلي اغرق في دماه

ولا سلوق ننسوها ولاجردينة شهيرة بالشيخ بو مرعي اسماه

……

ولا ينتسى هلي أسباب جلانا الحاكم التركي والعقوري معاه

……

ولا ينتسى حتى نـهار الذيبه فيه ألف فارس فارقـوا الحياة

……

الجوازي انهدو على العدو ما يردوا يوم حوسة الذيبة نهار فناه

والعواقير جسر ما هناك تبصر ابراهيم وسديدي أصحاب عناه

ركابة على القصـيرات قيونه صيتهم يشرف سمـح يا محلاه

العواقير هدن على العدو ما يردن دياره على إلى طاح في الميدان

عواقير جرح راكبات القرح كما صقور سرح طالبات عشاء

جبارنة تنادوا في بعضهم راغوا في نقر برقة ما هنـاك وقـاه

وكاثر الطايح والسبيب ذوايح نهاراً شين دخانه ارقي السماء

……

ونحن هلك يا برقة عطينا حقك كمين فارس ينهاب قشعرناه

وتوه جلينا والفروض قضينا وحقك عطينا بالوفاء درناه

ووين ما انردوا ما لحد نجدوا لنا ملك في برقة شـهير نباه

 

[1] الداوون من املاك ترهونة تقع بينها وبين مسلاته بها آبار عذبة ويقطنها الفرجان خاصة. وتعد قبيلة الفرجان من اكبر قبائل المرابطين حجماً ونفوذاً. ويتوزع الفرجان في شمال أفريقيا، فلهم تمثيل كبير في تونس ومصر بالإضافة إلى ليبيا. وإلى جانب الداوون لهم تجمع كبير في منطقة سرت وكذلك في برقة التي يعرفون فيها بفرجان أولاد عائشة، ويعتبرون أهل البركة مما جعلهم محل تقدير و احترام أينما نزلوا، حتى قيل فيهم "أصحاب سمت حسن و أخلاق أزهى من اللؤلؤ و المرجان". راجع جحيدر – آفاق و وثائق في تاريخ ليبيا الحديث صـ 90.

[2] التراسة أو التريس ومفردها تراس وتعني الرجل الذي يعد نفسه للقتال مشياً على الأرجل وعن طيب خاطر متترساً بسلاحه وشجاعته التي تفوق الفارس على جواده كما هو معروف عند البدو. وتستخدم كلمة تراس في اللهجة الليبية للتعبير عن شهامة الرجل وأقدامه.

[3] تقطن البطنان قبائل مرابطة، ويتحالف المرابطين مع قبيلة العبيدات ومهم قبيلة المنفة و القطعان والجرار والحبون.

[4] نجم – مجلة جيل ورسالة (في رحاب تجريدة حبيب) العدد 2، سبتمبر 1996. وللمزيد انضر العدد 3، مايو 1997، والعدد 4، إبريل 1998، والعدد 5، ديسمبر 1999م. وللمزيد عن "تجريدة حبيب" يمكنكم زيارة مجلة جيل ورسالة الإلكترونية في هذا الرابط على موقع جيل ورسالة:

http://libyajeel.com/jeel_magazine/p...ers_pages.html

[5] بازامه – بنغازي عبر التاريخ صـ 269، 325. (عقل من عقال، اسم للموضع الذي تعقل فيه الناقة، كناية عن حصارهم بتلك المنطقة التي بها ضريخ الولي الصالح سيدي خريبيش).

[6] توجد تفاصيل هذه القصة في المرجع الأول التي ترجمت فيه هذه الرسالة إلى الإنجليزية وهو:

Cella, Narrative of an expedition from Tripoli in Barbary to the western frontier of Egyptian 1817, by the Bey of Tripoli, in letters to Dr. Viviani of Genoa, tr. by A. Aufrere, pp 219-228.

[7] وفي هذا البيت وأخر أبيات يظهر التأكيد على الرجعة يوماً ما إلى برقة بتكرير الشاعر كلمة "انجوك". وهذا الموقف والمرارة عبر عنها الأستاذ محمد عبد الرازق مناع الجازوي بأسلوب توثيقي في كتاباته لاسيما كتاب "الأنساب العربية" الذي آثار زوبعة ودوياً بين القبائل في برقة لما يحمله من نبش للماضي ومخاطر للمستقبل كما اخبرني بعض زملائه من المعلقين.

 

الجزء الرابع   (د. فرج عبدالعزيز نجم)

 

هذا وبالرغم من الفواصل الطبيعية إلا أن القبائل استطاعت أن توحد المنطقة حينما خذلتهم الجغرافيا والسياسة. فتزعم القبائل الليبية ان لها أصولاً واحدة سواء كانت بربرية أو عربية. كما كانت تربط هذه القبائل تحالفات بالرغم من تمزقها وتشرذمها. فتجد قبيلة أولاد سليمان في قبائل الجبارنة الندية والنصرة اذا ما تطلب الأمر. وكلما ابتليت ولاية طرابلس بظروف طبيعية قاسية كالجدب والأوبئة أو تفشي البطالة يجد أهلها الفرج في برقة حتى قالوا فيها "برقة رباية الذايح".[1] ومن أوائل الذين استوطنوا مدينة بنغازي مع الآخرين كالأندلسيين واليهود، أفراداً وعائلات في مطلع القرن السادس عشر ميلادي، تجار من تاجوراء ومسلاته وزليطن وعرفوا مجازاً بالطواهر. ويصف أستاذنا بازامه هذه الهجرات الأولى على أنها اقتصادية محضة، فيقول:

 "اجتذبها الربح، وحملها على الاستقرار رواج الأسواق"

 ولكن جاء عرب مصراتة ليزاحموهم حتى فرضوا سيطرتهم على المدينة، ثم طردوهم خارجها ليستقر بهم المقام في درنة بصورة نهائية. وعندما احتدمت بعض هذه الظروف، وخاصة بعد الحملة العسكرية التي قادها الوالي دارغوت باشا على تاورغاء ومصراتة سنة 1555م، وجد أهل مصراتة على وجه الخصوص الملجأ في برقة حيث كونوا نواة مجتمع حضري فيها، التي كانت حينها بادية يقطنها العرب البدو، ولم يُعرف فيها الاستقرار وحياة الحضر إلا في مدينتي بنغازي ودرنه. فنجح المصراتية في التجارة - كما هو حالهم أينما حلوا ونزلوا – وبذلك احتكروها، وهذا در عليهم من الخيرات مالاً وأملاكاً ما فاض وزاد لينعش الحياة الاقتصادية في الأماكن التي استقروا وتاجروا فيها. ولذلك يرجع الفضل إليهم في ترميم البنية التحتية لبنغازي وتقوية عمادها الاقتصادي وتنميته. وتسمت أحياء وشوارع في بنغازي بأسمائهم كالصابري[2] ومصراتة وقصر حمد وغيرها. وحدث نفس الشيء في طرابلس في النواحي الأربعة، فهنالك ناحية لقبائل الرقيعات والعلاونة وغيرهم، وكذلك ما حدث مع سكان جبل نفوسة من العرب عندما كانوا ينزلون إلى طرابلس، فأسسوا منطقة خاصة بهم في الجزء الجنوبي منها باتجاه غريان، عرفت بحومة غريان يسكنها أبناء غريان ويرتادها من أتى من غريان، حتى أن يهود غريان كانت لهم فيها حارة صغيرة متصلة بالحارة الكبيرة الواقعة في قلب المدينة القديمة داخل الأسوار.

 

وكما كان لعلماء الغرب الفضل الكبير في تعليم البرقاوية أمور دينهم وتولي مهام التعليم والوظائف الإدارية إلى جانب القضاء. وبذلك استطاع هؤلاء المهاجرون من الغرب إلى الشرق الربط بين الإقليمين ربطاً عضوياً ومعنوياً لدرجة استحالة الفصل بينهما نتيجة التزاوج والتصاهر والتكاتب بين سكانهما. وقبائل بادية برقة اعترفوا وقدروا لهم ذلك، بل في بنغازي استبدل البدو تسمية هؤلاء المهاجرين من "عرب الغرب" أو "مصراتة" بالحضور لتشمل من هم ليسوا من أصول مصراتية، وفي درنة سموا "درناوية". وهاتان التسميتان تحملان دلالة صريحة على أنهم اصبحوا جزء لا يتجزأ من التركيبة المحلية، بينما بقى البدو يعرفون كما كانوا بالبدو إلا من تحضر منهم ودخل المدينة فتخلع عليه تسمية الدرناوية لتحضره. وهذه الصفات المحلية خلعت على المرابطين من أولاد الشيخ الفواتير، فمثلاً ذرية الشيخ عبد السلام الغريب، من أحفاد الشيخ عبد السلام الأسمر، يعرفون في برقة بأولاد شيخ برقة للاستدلال المحلي والانتماء السياسي القبلي بما في ذلك تبدونهم وانتهاجهم الحياة البدوية، بينما أولاد بوراوي يعرفون بأولاد شيخ ورفلة حيث استقروا في بني وليد، وكذلك أولاد سيدي فتح الله وأولاد ابعيو وبوشعالة الذين يعرفون بأولاد شيخ مصراته، ولهم مناطق تسمى بأسمائهم في المدينة، وهكذا الأمر حتى في زليطن مع أولاد عبد السميع. والجدير بالذكر ان هؤلاء جميعاً هم روافد من منبع الفواتير، ولهم ولاءاتهم للمناطق التي يعيشون فيها اكثر من ولاءات الدم وارتباطاتهم القرابية فيما بينهم. هذا وقد تزايد عدد سكان الحضر وخاصة في بنغازي ودرنه، إما بالتوالد أو بازدياد موجات الهجرة، حتى اصبحوا الأغلبية في أماكن مثل بنغازي.

 

كما توجد قبائل هي أصلاً من الشرق كالبراغثة (من العواقير) في قبيلة ورفلة، والرواجح (من أولاد حمد) في القره بوللي. ولكن عدد من أتى من الغرب ليستقر في الشرق كان اكثر. فالبعض انضم إلى قبائل الشرق وأصبح جزء لا يتجزأ منهم كالبلاعزة والعمايم وقماطة بين العواقير. بل وصل الحال إلى استيعاب العناصر الوافدة من الخلافة الإسلامية كما حدث مع سكان جزيرة كريت من المسلمين الذين اضطروا للاستقرار في برقة سنة 1898م، فكاتبهم الحاسة وسموا بالحاسة الحمر. ومع بداية القرن العشرين الميلادي تشكل في الجغبوب مزيج قبلي سمى بالإخوان السنوسيون وهم عبارة عن افارقة يعرفون بالسوادين وبعض من قبائل البادية البرقاوية، كذلك بعض العلماء الطرابلسية والفزازنة والمغاربية وعوائلهم الذين بايعوا السادة السنوسية وانتقلوا معهم إلى الجغبوب ليتخذوها موطناً لهم. وهذه تكتلات في مجملها كانت نتاج نظام المكاتبة والمؤاخاة - الصيغة المفضلة للتحالفات عند القبائل.

 

الهجرة والسنوسية

 

كما كان للطريقة السنوسية امتدادات وأتباع داخل دول الجوار حيث بلغ عدد زواياها في مصر قرابة 47 زاوية، وفي جزيرة العرب بما فيها مكة والمدينة 25 زاوية، بينما في بلاد السودان (وخاصة تشاد) قرابة 17 زاوية، وفي تونس 6 زوايا فقط. لقد وجد السيد الإمام محمد بن علي السنوسي، مؤسس الحركة السنوسية، في هجرته إلى ليبيا البديل عن الجزائر المحتل، وأرض برقة خصبة لأفكاره. ولكن كان المستفيد الأكثر من غزارة علمه وعصارة تجربته هم البدو خاصة بعد طوافه بالمشرق والمغرب، وكذلك ممن رافقه من أتباعه العلماء من الليبيين والمهاجرين المغاربة وغيرهم الذين عرفوا فيما بعد بالإخوان.[3]

 

سبق ذلك سيطرة الطرق الصوفية على التدين في اغلب المدن والقرى الليبية وخاصة العيساوية والقادرية والمدنية والعروسية. ولكن بقت البادية، وخاصة برقة، في مجملها خالية من الطرقية ولم يسجل حضور للمتصوفة في المجتمع البدوي البرقاوي إلا للسيد ظافر المدني (الطريقة المدنية) أو السيد محمد بن علي السنوسي الذي نجح في اختراق البدو وتدينهم. وهذا النجاح الباهر استلفت نظر الدكتور محمد فؤاد شكري الذي درس السنوسية ووضع كتاباً أسماه "السنوسية دين ودولة" وأشار فيه الى النفوذ التي وصلت اليه السنوسية في برقة، حيث لم يسبقها اليه أحد من قبل، حتى ان شيخ الزاوية السنوسية ببنغازي الشيخ عبد الله التواتي - وليس الحاكم التركي - كانت له الكلمة العليا والقول الفيصل في مجريات الحياة في المدينة عام 1884م، بل أن كبار موظفي الدولة العلية كانوا يسعون جاهدين لنيل رضاء السنوسيين بما فيهم الوالي العثماني في طرابلس، علي أشقر باشا، الذي سبقهم في ذلك. فلقد

 

"كان يكرم السيد المؤسس إكراماً عظيماً ويعتمد على السنوسية ونفوذها في حكومة دواخل برقة خصوصاً؛ واعترفت الدولة للسيد عن طريق واليها بالزعامة والإمارة".

 

وأعفت السنوسية من الضرائب الأميرية والأعشار الشرعية.

 

"… بل ذكر المؤرخون أن السيد محمد بن علي السنوسى الكبير لم يلبث أن نال من السلطان العثماني عبد الحميد (1839-1861م) في عام 1855م فرماناً جعله بمثابة الأمير المستقل بإمارته … وفي الجغبوب زاد نفوذ السيد وبلغ ذروته حتى اصبح سيد الصحراء المطلق. ولم يصب علاقته بالدولة أي تغيير بسبب ذلك، بل ظل الولاة العثمانيون في برقة وطرابلس يخطبون وده ويحرصون على صداقته حتى وفاته في عام 1859" … كما يقول الدكتور شكري في كتابه.

 

ويستدل الأستاذ بازامه بثقة وينقل عن الدكتور شكري وصفه لوالي بنغازي العثماني، علي كمالي باشا، الذي كان يعتبر نفسه:

 

"أولاً وقبل كل شئ خادماً للسيد السنوسي، ومن أتباعه، ثم موظفاً وحاكماً عثمانياً بعد ذلك".

 

وهذا بدا جلياً في العلاقة الروحية - والشراكة فيما بعد - التي سادت بين الحكومة العثمانية والحركة السنوسية.

 

ولذا نقل السيد السنوسي الكبير [4] هذا العلم والتجربة في تمازج مع البادية، بشكل يثير الاستغراب، القبائل نقلة نوعية وغير اغلب مجاري الحياة في ليبيا بصورة قل مثيلها في تاريخ المنطقة، فوضعت ليبيا بجدارة على خريطة المنطقة. وهذه التجربة، في نظرنا، كانت بمثابة التكملة لتجذير الهوية الليبية التي دشنها القرمانليون. فأكدت السنوسية على الترابط الجغرافي والإداري ومن ثم الروحي لليبيا مع مجموعة من الأبعاد في مقدمتها البعد الإسلامي والإقليمي وكذلك القطري.

 

وسبب استقرار السيد الأمام في برقة يسرده الشيخ بن علي في كتابه عن تاريخ العائلة السنوسية ان الشيخ بوشنيف الكزه، أحد مشايخ قبيلة العواقير الأفذاذ، كان مريضاً على فراش الموت فاسُتدعي له السيد الأمام من بنغازي حيث دلهم عليه الشيخ علي خريبيش.[5] وطلبوا آل الكزة من السيد الإمام رؤية الشيخ بوشنيف الذي كان يحتضر. وبالفعل ذهب معهم السيد ورأى الشيخ وقرأ عليه ما يقرأ من رقى الصوفية والتعازيم ودعا له بالشفاء. فسرعان ما انفشت بطنه المنتفخة على الفور واستيقظ من غيبوبته، فهاجت نجوع العواقير الكائنة بمنطقة الظاهر بزغاريد نسائهم وفرح الجميع بعودة الشيخ الكزه إلى الحياة بفضل الله تعالى، وحمد الجميع الله تعالى على استجابته الفورية لدعاء السيد مما زاد الناس يقيناً في السيد. وانتشر هذا الخبر في ربوع البادية وحواضر برقة. وأقام السيد الإمام في نواجع العواقير قرابة الشهر وجاءت الوفود تلو الوفود تسلم على السيد، فرأى مشايخ برقة وفي مقدمتهم العواقير والبراعصة والمغاربة ان السيد تحتاجه برقة. وكان الشيخ أبو بكر حدوث البرعصي ممن اقتنع بهذا الرأي، وكان من وراء هذه القناعة ابن عمه، داهية البدو وعقله المدبر، الشيخ عمر جلغاف.

 

 

 

[1] المقصود أن برقة تربي كل من يأتي إليها لسبب أو لأخر، و تعطيه فرصة متكافئة للعيش فيها.

[2] منطقة الصابري، مسقط رأس كاتب هذه السطور، محاذية لشط البحر. و ترجع عائلة الصابري مرفأ قصر حمد البحري بمنطقة مصراته. و لعلهم وجدوا في شط الصابري و رماله ما يخفف عنهم الغربة و العوض في البعد عن شط و رمال قصر حمد.

[3] إلى جانب المغاربة (تونس و الجزائر و مراكش) كان هناك بعض الأخوان من شبه جزيرة العرب كالسيد محمد بن صادق من الطائف، و السيد فالح الظاهري من الحمراء بالحجاز. و كذلك السيد محمد بن الشفيع و السيد عبد الله بن محمد السني و هما من سنار السودان.

[4] السنوسي الكبير كان لقباً عادة يطلق على من يرأس الطريقة ليميز عن بقية الأخوان، الذين هم أتباع الحركة المخلصين من الخاصة و العوام. و انتقل هذا اللقب من السيد الأمام المؤسس إلى ابنه السيد المهدي و من ثم السيد احمد الشريف إلى أخرهم و هو السيد إدريس السنوسي.

[5] يبدو انه أحد الصالحين من عائلة نجم، حيث ان جد عائلة هو خريبيش صاحب المقبرة الشهيرة قرب منارة بنغازي.

 

 

الجزء الخامس     (د. فرج عبدالعزيز نجم)

 

ويتساءل البعض لماذا استقر السيد الإمام في برقة دون سواها؟ ولماذا اختارها لانطلاق دعوته الإصلاحية والسياسية؟ أسئلة طالما حيرت الباحثين. لعلنا نجد الجواب كامناً في برقة الجغرافية، وبرقة القبائل. فبرقة منقطعة ومنفصلة في شبه جزيرة تحاصرها الصحراء من الشرق والجنوب والغرب، والأغلبية الساحقة من قبائلها تقيم في نجوع بمنأى عن الساحل المطل على البحر الأبيض المتوسط. أما التركيبة القبلية فهي عربية بدوية صرفة، تربطها أنماط حياة اجتماعية متجانسة، يقوم فيها النظام القبلي، كما هو الحال في بقية ليبيا، على عصبيات دموية مشتركة وتقاليد وأعراف بدوية واحدة. وعصبية "قرابة الدم" كانت عنصراً فعالاً ومحركاً للقتال والتضحية من أجل ولاءات وعهود للسنوسية. والسنوسية بدورها استثمرت هذه الولاءات والعهود خير استثمار واستوعبت جيداً المثل البدوي القائل:

 

" أنا وخوي على ولد عمي، وأنا وولد عمي على الغريب".

 

ومن ثم استطاعت السنوسية والبادية ان تحول هذا المثل إلى "أنا وخوي وولد عمي على الغريب".

 

كما أن دواخل برقة خلت من الإقطاعيين والباشوات والبايات وما شابه ذلك من الأنظمة الهرمية التسلطية في بعض الدول العربية، وبقيت بعيدة عن سيطرة المدن كطرابلس وبنغازي ودرنة وبالتالي لم تكن للسلطات العثمانية السيطرة الفعلية عليها وإنما بقت السلطة المطلقة في أيادي القبائل وشيوخها، وهذا كان واضحاً من العمليات التأديبية التي تقوم بها الحكومات من حين إلى أخر لجبي ضرائبها.

 

والتساؤل الأخر الذي يطرحه البعض لماذا استقر السيد الإمام في الجبل الأخضر وبنى زاويته في الجبل بدلاً عن برقة البيضاء الفسيحة والتي كانت تتحكم فيها بالدرجة الأولى قبيلتي العلايا: العواقير والمغاربة، بينما كان الجبل مقسماً بين قبائل الحرابي[1] التي لا تقل عن خمس قبائل. وهذا مرجعه إلى انضواء الحرابي تحت قيادة رجل واحد يتمثل في شيخ شيوخهم أبوبكر حدوث. وبالفعل أعطيت للسيد أرضاً من أملاك عائلة حدوث بعد تنافس مع عائلة الجلغاف بالرغم انهما من بيت طامية أقوى بيوت البراعصة. وشيدت على ارض عائلة حدوث الزاوية الأم على مقربة من ضريح الصحابي رويفع الأنصاري. وليمتن السيد الإمام علاقته ببقية قبائل برقة فقد خص وشرف الشيخ عبد الله بوسويحل المريمي، أحد شيوخ قبيلة العبيدات، عندما زاره السيد في بيته دون غيره. بينما برقة البيضاء، والعواقير تحديداً، كانت لها قيادات متعددة ومتنافسة ولم تكن كالبراعصة أو حتى الحرابي الذين اجتمعوا على قيادة واحدة آنذاك. وخير من وصفهم هو الشيخ عبد السلام عبد القادر الكزة عندما قال للشيخ عبد الجليل سيف النصر عن العواقير ومشايخها بأنه "جمل بين جمال". والمقصود هنا أن العواقير لا تجتمع تحت إمرة رجل واحد كائناً من كان. وهذا كان جلياً حتى في قيادة المجاهدين ضد الطليان من قبيلة العواقير. فكان هناك الشيخ عبد السلام الكزة ينافسه الشيخ عبدالحميد العبار الذي كان يمثل قسماً من بيت سديدي في قبيلة العواقير، بينما كان الشيخ سليمان رقرق يمثل جناحاً أخر في منطقة الابيار وبنينه، وكذلك عائلتي اللواطي والأصفر.[2]

 

ظروف وملابسات تمكين السيد السنوسى الكبير في الجبل الأخضر فيها تشابه وتشابك إلى حد ما مع ما مر به السيد عبد السلام الأسمر الفيتوري من حيث السياحة ونصرة القبائل له. مكث الشيخ عبد السلام في أماكن متعددة في ليبيا وجبل زغوان بتونس شريداً بلا مناصر أو كفيل. وعلاقة بعض السادة الصوفية وجبل زغوان علاقة روحانية حيث يرى بعضهم ان هذا الجبل مباركاً. ويقول بعض المتصوفة في ليبيا انهم توارثوا رواية مفادها "ان كل الأولياء عبدوا الله تعالى فيه ولو ساعة". فقد اخُرج الشيخ من زليطن سبع مرات، وتنقل بين الساحل وطرابلس ثم جبل غريان لتستقبله قبيلتا أولاد سيدي الساعدي (السواعدية) وأولاد بوسلامة أحسن استقبال في منطقة القواسم. ثم اضطر للانتقال إلى قلعة سوف الجين في منطقة بني وليد ليقيم سبع سنوات هناك. ومن بعدها انتقل إلى تاورغاء التي احب أهلها لما فيهم من طيبة وكرم حتى كاد ان يبني زاويته بينهم. وبعدها انتقل إلى مصراتة التي قابلته هي الأخرى بمثل ما قابلته به تاورغاء التي أراد الاستقرار فيها ليغادرها ويكمل ما تبقى من العمر في مكانه الأخير الذي احتضنته فيه قبيلة البراهمة دون غيرها في مدينة زليطن.[3] ففرح البراهمة به وتقبلوا أفكاره وناصروا دعوته، ومن ثم وفروا له الحماية والدعم باقتطاع جزء من أرضهم ليبني عليها زاويته الشهيرة، ومن ثم يموت ويدفن بها سنة 1573م. وتصبح زاوية الشيخ منارةً لطلاب العلم والدعوة العروسية، وأكبر وأقدم معهد لتحفيظ القرآن الكريم بليبيا. ومن علماء زليطن من دعم الحركة السنوسية من أمثال السيد عمران بن بركة الفيتوري والشيخ عمر محمد الأشهب (من قبيلة أولاد غيث). والسيد عمران كان مدرساً للسيد المهدي، ووالداً لأم السيد احمد الشريف. ومن ثم ارتقت زاوية الشيخ عبد السلام فيما بعد لتصبح معهداً إسلامياً تابعاً لجامعة السيد محمد بن علي السنوسى الإسلامية في البيضاء سنة 1957م. والآن هي صرح علمي مستقل في مدينة زليطن ومعروف بالجامعة الاسمرية.

 

ويبقى الأهم ان دعوة الإمام محمد بن علي السنوسى للإقامة في برقة كانت لها دلالة من حيث حاجة البادية الماسة إلى قيادة روحية في أراضٍ حل فيها الجهل مكان القيم الروحية والأخلاقية. وكذلك تحمل دلالة أخرى هي استيعاب برقة للمهاجرين من أينما أتوا لا سيما الحجاج المغاربة، واذا ما تطلب الأمر مع التذكير بان السيادة لقبائلها مهما تغيرت المسميات. وهذا ما أكده الشيخ سليمان رقرق عندما اختلف مع السيد إدريس السنوسي في ترتيباته لإمارة برقة السياسية. فعندما أراد السيد التأكيد على إمارته لبرقة وانه هو الأمير الشرعي والزعيم الأوحد لها سنة 1949م. قال حينها الشيخ سليمان غاضباً للسيد إدريس "برقة لم يأتِ بها جدك في خرجه من الجزائر".[4]

 

والجدير بالذكر ان السيد الأمام محمد بن علي السنوسي بعدما ترك كل شئ في بلده الأصلي في الواسطة بمستغانم الجزائرية أسس أول زاوية له في جبل أبي قبيس بمكة المكرمة سنة 1837م/1253هـ، ثم جاء ليستقر بالجبل الأخضر ويبني زاويته البيضاء التي عرفت بأم الزوايا سنة 1842م/1257هـ لتصبح النواة الحقيقة لحركة إصلاحية عريقة ودولة مستقلة يقودها أحد أحفاده بعد وفاته بقرن من الزمان. ومن ثم انتقل السيد الأمام بعدها إلى واحة الجغبوب وتوفي بها ليترك فيها آثاره ومجهوداته الفكرية والإدارية ليجعل من هذه الواحة التي كانت قبل مجيئه إليها سيئة الصيت، نائية، تفتقر إلى كل مقومات الحياة، حتى ان ماءها شديد المرارة ممزوج بملح، ومن ثم تصبح عاصمة للسنوسية في بادئ الأمر، ومن ثم معهداً إسلامياً على غرار الأزهر بمصر والقرويين بفاس والزيتونة بتونس، وكادت الجغبوب ان تضاهي الصروح العلمية فيما بعد اذا ما كتب لها ذلك.

 

رأى مؤسس هذه الحركة ان زواياه هي سبيل الأجدى لإصلاح واستقرار البدو الذين استفحلت بينهم العداوة والبغضاء التي كانت مكلفة للقبائل في الأرواح والأموال، وانتقاصاً من هيبة الحكومة ونقصاً لمواردها الضرائبية. فأنشأ لكل قبيلة من قبائل برقة زاوية على أرضها تتكفل القبيلة بتكاليف البناء والتسيير، وتكون بمثابة المركز والمرجع لأي خلاف بين القبائل، وتجعلها حرماً آمناً لمن دخلها واستجار بها، لا يطلق فيها رصاص أو يشهر سلاح، ولا يسمح للشجار فيها أو إعلاء صوت بالغناء أو الخصام. ويقضى فيها طبقاً للشرع الإسلامي اخذين بعين الاعتبار التقاليد والأعراف البدوية الموافقة للشرع. وكل هذا كان يصب في خدمة القبائل دينياً ودنيوياً كما رآه البدو أنفسهم. واذا ما تعددت بيوت القبيلة الواحدة فتتعدد الزوايا بقدر الإمكان لتلبي حاجات الجميع. فقبل البدو زعامة السنوسية وقياداتها لأسباب عدة على رأسها أنها حركة تعني وتخاطب الرجل البسيط (البدوي) وتقضي له حاجاته وتوفر له الأمن والاستقرار. ولكن الأهم، في نظرنا، أن قيادتها ليست من المنافسين المحليين، أي ليسوا من القبائل المتناحرة، بل رجال أشراف لا قبيلة وراءهم ولا أطماع قبلية أو شخصية لهم إلا خدمة الإسلام وكل المسلمين. وأجد في هذا التعليل ما يتفق مع المنطق والواقع كون البادية في برقة لا تتفق على قيادة من بينها لأن قبائلها تتنافس وتتناحر فيما بينها، وأنها ترى في هؤلاء الأشراف المرابطين الأهلية الروحية والعلمية لقيادتهم، وكذلك مظلة يستطيع الجميع الاستظلال بظلها النابع من الإسلام. حتى انه بعد رحيل السيد محمد بن علي السنوسي إلى الحجاز ومن ثم طلبه لابنيه السيد المهدي والسيد الشريف ليلحقا به لكي يشرف على تعليمهما، فقد اقلق غياب الأمام وابنيه أعيان برقة وشيوخ قبائلها رغم الاستقرار وتقدم الحركة بينهم. فبعثت من ليبيا البعثة تلو الأخرى تستجدي الإمام الرجوع فوراً، ورأى عقلاء القبائل الكبرى أن إنجازات الأمن والاستقرار مهددة، وأن البديل هو الرجوع إلى جاهلية الثارات والتهجير، فأسرعوا في حث السنوسي الكبير وولديه على الرجوع. وممن ذهب لهذا الغرض الشيخ عمر الجلغاف عن قبيلة البراعصة، والشيخ علي لطيوش [5] عن قبيلة المغاربة، والشيخ بوشنيف الكزة عن قبيلة العواقير وقد تجاوز عمره المائة عام. وبالفعل استجاب السيد الإمام لرغبتهم فقفل عائداً إلى برقة ليصنع مع قبائلها هو وأبناءه تاريخاً لها.

 

 

[1] تنقسم قبائل برقة بين سعادي ومرابطين. ومن السعادي أولاد علي والحرابي والجبارنة والبراغيث. وقبائل الحرابي تقطن الجبل الأخضر حتى الحدود المصرية الليبية. وتتكون من العبيدات وأولاد حمد (والبراعصة) والدرسة والحاسة وأولاد فايد. بينما الجبارنة هم الجوازي والعواقير والمغاربة والمجابرة والعريبات والجلالات. ويمتدون من المرج حتى الوادي الحمر بالقرب من سرت. والبراغيث هم العرفة والعبيد والفوايد، ويعيش اغلبهم بين الحرابي والجبارنة في سهل المرج وتاكنس وجردس العبيد.

[2] لكثرة القيادات بين العواقير رأى السيد احمد الشريف من الأفضل ان ينصب القجة عبد الله – من قرعان تشاد – قائمقاماً لدور الجبارنة كلهم بما فيهم العواقير. وبذلك قطع دابر الفتنة. راجع الشلماني – شئ عن بعض رجال عمر المختار صـ 49.

[3] البرموني – تنقيح روضة الأزهار في مناقب سيدي عبد السلام الأسمر صـ 112. ومن القبائل التي أساءت اليه إساءة بالغة كما ذكرها البرموني قبيلتي الأحامد وأولاد غيث الذين دعا عليهم الشيخ بالهلاك إلا من تبعه منهم (راجع نفس المصدر صـ 101-104.

[4] رواية شفوية أكدها لي اكثر من مصدر معاصر لهما، ولكن لحساسيتها لم يذكرها أحد من المؤرخين فيما اعلم.

[5] عمدة قبيلة المغاربة وأول من شيد قصر الزعفران بسرت كمسكن له وعين قائمقاماً لها. وكان أول بدوي يمنح رتبة البكوية من الدولة العثمانية أو كما يقول الأشهب في كتابه "السنوسي الكبير-هامش صـ139". وعقبه ابنه الشيخ الكيلاني لطيوش الذي خلفه ابنه الشيخ المجاهد صالح لطيوش صاحب الباع الطويل في التصدي للطليان في المنطقة الوسطى. وكذلك من عقبه اللواء السنوسي لطيوش أول قائداً للجيش الليبي في حرب التحرير مع قوات الحلفاء (بريطانيا) ضد المحور (إيطاليا) في الحرب العالمية الثانية.

 

 

الجزء السادس     (د. فرج عبدالعزيز نجم)

 

والملاحظ ان الحركة السنوسية كانت بدوية الانطلاقة، وقبلية النصرة والجغرافيا، ولذلك استجابت لحاجيات المجتمع البدوي طالما أهملتها الدولة. فلولا قبائل برقة - وخاصة قبيلة البراعصة - [1] لما مكن للطريقة السنوسية في برقة القبلية. فرأت القبائل في السنوسية ما لم تراه في غيرها من نفع لهم، فاجتمع رأيهم عليها فبايعوا كابراً عن كابر وتحزبوا لها بكل ما أوتوا من حمية وعصبية الأخوة، حتى ان البرفسور ايفانز بريتشارد، عالم الأنثروبولوجيات البريطاني، درس الحركة والقبائل في برقة وقدم دراسة قيمة بعنوان "السنوسية في برقة Sanūsī of Cyrenaica " يقول فيها:

 

" أصبحت الطريقة (السنوسية) مهيمنة لأنها تجاهلت المدن واتجهت لدعوة البدو، فأسست مراكزها بين قبائل البادية، ولذلك أسُست الاخوة السنوسية على مفهوم الاخوة عند البدو".

 

ولذلك انتشرت السنوسية بين قبائل البدو كانتشار النار في الهشيم، وتسابقت القبائل لتبني السنوسية فكراً وحركة ومنهجاً. وبهذا الزخم انطلقت السنوسية واكتسبت الاتباع تلو الاتباع، في كل قطر إسلامي في الشمال الإفريقي وفي جزيرة العرب، وعبر الصحراء الكبرى من المغرب الأقصى إلى بلاد الحبشة. فبادلت الطريقة البدو التحية بتكريس قواعدها تحديداً في ربوع برقة والصحراء الغربية. وبذلك تموضعت بعيداً عن المدن وخلائطها مما أدى إلى انعزالها في البادية؛ في حين وجدت الطرق والحركات الإسلامية الأخرى السبل مسدودة أمامها لاختراق المجتمع البدوي وخاصة في برقة برغم ما كان يتخبط فيه من جهل وشركيات وانحطاط. وبالتالي هذا التجنب وعدم الاحتكاك مع أي جهة أخرى، برغم تطلع القادة السنوسيون إلى إصلاح العالم الإسلامي كله وليس البادية فحسب لإيجاد مجتمع مسلم مجاهد لمواجهة الخطر الأوروبي المتطاول على الأمة، أدى كل ذلك إلى انزواء الحركة وانكفائها في الصحراء والبادية. وهذا الجمع بين عالمية الدعوة وبدوية الحقل كان جلياً في أماكن ميلاد السادة القادة ووفاتهم. فالسيد المهدي ولد بالجبل الأخضر وتوفي في تشاد والسيد احمد الشريف ولد في الجغبوب وتوفي بالحجاز بينما السيد إدريس ولد في الجغبوب وتوفي في مصر، ولا ننسى ان السيد السنوسى المؤسس ولد في الجزائر وتوفي في الجغبوب. وهذا الجمع بين الضرائر والتضاد وجد نفسه مع الزمن يدنو إلى التنافر. ولذلك في سنة 1951م أدت هذه "البدونة" للطريقة إلى اضمحلال الحركة مع قيام الدولة الليبية الحديثة، وما نتج عن نهج رجالات الدولة الفتية من منحى نحو العصرنة بعيداً عن أساليب السنوسية النامية أساساً من التراث والأصالة. فأصبحت حواضر ومراكز إشعاع الدولة طرابلس وبنغازي بدلاً من الجغبوب والكفرة.

 

اكثر من حكم ليبيا بعد الفتح الإسلامي هم ولاة من البربر كالصنهاجيين وبني خزرون والموحدين و الحفصيين والرستميين وغيرهم. وبعد ذلك حكمها العثمانيون، ومن ثم القرمانليون بقيادة احمد باشا القرمانلي الذي امتد حكمه لليبيا قرابة 34 سنة بعد ما أقره الخليفة العثماني احمد خان الثالث والياً عليها. وكانت تسمي آنذاك بطرابلس الغرب، بأقاليمها الثلاثة طرابلس وبرقة وفزان. وتوفي احمد باشا سنة 1745م وانتقل الحكم في ذريته وراثياً. وكان أول من تسمى بأمير المؤمنين منذ ان أصبحت ليبيا ولاية عثمانية، واستمر هذه اللقب في أولاده وأحفاده من بعده حتى انقرض ملكهم من طرابلس بسبب القبائل وصراعهم معها. ويعتبر احمد باشا القرمانلي واضع الأساس للدولة الليبية الفتية العصرية، ورسخ ذلك من بعده حفيده يوسف باشا الذي عرف نفسه ودولته بأنهما ليبيَ العروبة والإسلام تاركاً خلفه جذوره التركية. وغطى حكمه ليبيا من الساحل حتى الجنوب في فزان. وعرفت ليبيا معنى الاتحاد والوحدة الإدارية أبان الحكم القرمانلي لمدة قاربت 124 سنة رغم الثورات والاضطرابات في الدواخل والحواضر. وكانت لليبيا صفة قانونية شاذة في العهد القرمانلي بحيث أنها تمتعت باستقلال كامل في تدبير شؤونها الداخلية والخارجية، ولكن في نفس الوقت بتبعية للباب العالي في اسطنبول كولاية من ولايات الخلافة العثمانية.

 

وعبر القرون الخمسة الفائتة حصلت عمليات هجرة طبيعية نتيجة الفقر والمجاعات وتفشي الأوبئة، وأخرى قسرية لأسباب سياسية. فهُجرت بعض القبائل ذات الوزن الثقيل نتيجة النكبات والركود الاقتصادي التي مرت على المنطقة، حتى ان بعض الإحصائيات الشعبية ذهبت للقول بان عدد أبناء القبائل من ذوي الأصول الليبية الذين يعيشون خارج الجغرافيا الحالية المتعارف عليها بليبيا يساوي ان لم يفوق عدد من هم داخل ليبيا. فالهجرة اتجهت إلى مصر وتونس وبلاد السودان (نيجر ومالي وتشاد والسودان العربي) حتى اصبح هؤلاء المهاجرون في حكم سكان تلك البلدان الأصليين. وهجرة الليبيين تحديداً إلى تونس كانت اكثر من حيث التواتر بحكم الكثافة السكانية في منطقة طرابلس التي تفوق كثافتهم في برقة إلى جانب قربها الجغرافي. ولكن الاستقرار في مصر من حيث مساحة وتوزع الاستيطان والإنشاءات المعمارية كان اكثر. واقل من هاتين الهجرتين كانت الهجرة إلى بلاد السودان وتشاد تحديداً. وهنالك من الأفراد والعائلات الصغيرة التي هاجرت إلى بلاد الشام (سوريا وفلسطين) وتركيا، ولكن بقت صغيرة في الحجم وفعالية التأثير. أما مالطا فكانت ملجأً مؤقتاً لبعض الأثرياء والساسة وذلك لكونها دولة غير مسلمة وذات طابع كاثوليكي متعصب وبالتالي معادياً لكل ما هو شرقي وإسلامي.

 

رغم الخسارة والمعاناة وما تكبدته هذه القبائل جراء التهجير فإنها حافظت على كيانها وبنيتها القبلية في أوطانها الجدد مع تكيف ظروفي في البيئة الجديدة بمؤثراتها السياسة والاقتصادية والاجتماعية. وظلت تحتفظ بذاكرتها القبلية وعلاقتها بالوطن الأم بما في ذلك أوطانها القبلية الخاصة بها. ولم ينسوا تاريخهم بل رسخوا في ذهنية أبناءهم أمجاد القبيلة ومفاخرها، وجعلوا من الشعر والنثر والقصة تعبير عن ذلك الوجدان الذي يحن من وقت لآخر للوطن. هذا الإرث القبلي بقى وسيبقى مطبوعاً في عقلية القبائل يرثه جيلاً بعد جيل، وراية يحملها فرساناً بعد فرسان.

 

الجزء السابع     (د. فرج عبدالعزيز نجم)

1- الـهجرة إلى مـصـر

 

وفي مصر تعيش قبائل أولاد علي والجوازي والبراعصة والفوايد والهنادي والفرجان والبهجة والجميعات والقطعان والجبالية والرماح والحبون وأولاد الشيخ وغيرهم من العربان وهذه القبائل نزحت إلى مصر في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وأحد المصادر الشفوية التي سجلت لنا حضور هذه القبائل في مصر الشاعر البدوي عنصيل - من قبيلة البراعصة بيت خضرة - عندما وقف أمام ضريح الحسين في كربلاء مواسياً إياه، ومتأثراً بموقف بعض القبائل العربية في العراق لعدم نصرتها لابن رسول الله عليه الصلاة والسلام. فبث كربلاء شعراً كان لأصدائه ردود بين العرب في ليبيا. وخاطب عنصيل كربلاء بان له من قبائل العرب الليبية من سينجد الحسين ويرد عنه مظلوميته اذا ما أعيدت الكرة على جيش ابن زياد يوم الطف فقال:

 

تمنيت في الفين فوق احصنه نهار كربلاء ونجيه قبل يجنه

فواق جوايد فراسين كسر صاحبات عوايد

رماح وجوازي يفزعن وفوايد ونا لولي اللي نقول هايا عنه

 

وهنا الشاعر يذكر قبيلة الرماح، التي هاجرت في القرن التاسع هجري (الخامس عشر ميلادي)، مع كل من قبيلتي الفوايد والجوازي اللتين هاجرتا مع نهاية القرن الثامن عشر وفي بداية القرن التاسع عشر، وجميعهم الآن موجود في مصر. وهذه القبائل سالفة الذكر كان من بين رجالاتها من شارك في صنع تاريخ مصر الحديث. فمثلاً عائلة آل الباسل - قبيلة الرماح وتعرف أحياناً بالبراغيث - برز منها الأخوان حمد باشا الباسل وعبد الستار بك الباسل. فكان حمد باشا (1871-1940م) أحد مؤسسي حزب الوفد ومن رجالاته العظام تحت قيادة سعد زغلول، ومن ثم نفي اثنينهما إلى مالطا. كان

 

حمد الباسل

حمد شاعراً فحلاً، وهذا ليس غريباً لان أخواله من عائلة الخضرة قبيلة البراعصة، كما كان يعتز دائماً بلباسه البدوي "يعرف آنذاك بالزي المغربي" حتى سمي عمدة قبيلة الرماح وله مؤلف بعنوان "نهج البداوة". أما عبد الستار بك فكان عضواً بارزاً في مجلس شيوخ المملكة المصرية وأحد رجال حزب الأحرار الدستوريين الكبار. ولآل الباسل من المآثر ما لا يعد ولا يحصى في عون المهاجرين والمجاهدين الليبيين إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا حيث كانت بيوتهم ومزارعهم وعزبهم حتى قصرهم الشهير في الفيوم كان ملاذاً لكل اللاجئين الليبيين. كذلك الشيخ عيسى عبدالجليل تخرج من الأزهر وحصل على العالمية منه، ومن ثم رجع اليه ليصبح بمرسوم ملكي شيخاً لكلية أصول الدين بالأزهر ومن ثم شيخاً لكلية اللغة العربية سنة 1947م، ومن بعدها عين عضواً في لجنة الفتوى بالأزهر الشريف. ترك بعد رحيله صدقات جارية منها تفسيراً للقرآن الكريم المسمى "تيسير التفسير"، وكتاب "اجتهاد الرسول" وكتاب "صفوة صحيح البخاري".

 

ومن القبائل التي أهملت ذكرها اغلب المصادر الليبية قبيلة الجبالي أو الجبالية، وليست لهم علاقة بسكان جبل نفوسة. بل نسبة إلى جدهم الذي دعا له الشيخ احمد الزروق قبل ميلاده بأن يكون جبلاً، وبعد ميلاده سمي محمداً ولكن كناه العرب، تبركاً وتيمناً بدعاء الشيخ، بالجبالي. [1] وترجع أصول قبيلة الجبالي إلى العيايدة في قبيلة السوالم (أولاد سالم) العربية التي كانت تقطن في ساحل الأحامد في القرن السابع عشر ميلادي. وعرف عنهم سطوتهم وصولتهم ما بين ساحل الأحامد مروراً بصحراء سرت حتى الجبل الأخضر في برقة. وكانت العرب تأتمر بأوامرهم وتنتهي بنواهيهم، كما كان الحكام الأتراك يتوددون إليهم ويتملقونهم من باب المصانعة حتى لا يحولوا بينهم وبين برقة ليمدوا نفوذهم إليها. وبادلهم الجبالية نفس الشعور حتى لا يفتحوا جبهات هم في غنى عنها. ولكن كان لهم مع أبناء عمومتهم من أولاد سليمان كثير من الخصام والثارات، التي سرعان ما طفحت، فتصادم أولاد سليمان ومعهم قبيلة الجهمة ضد الجبالية. واستعان الفريق الأول بقبيلة المحاميد القوية ضد خصومهم، فانكسرت شوكة الجبالية وانهزموا، فجلا بعضهم إلى مصر ونزلوا في الفيوم. ويصفهم الشيخ المؤرخ الطاهر الزاوي:

 

"ومازالوا يعرفون بأسرة الجبالي، وهم في عز ومنعة وثروة طائلة، وفي مقدمة وجوه العرب في مصر يشار إليهم اذا ما عدت الأسر العربية ذات الحول والطول".[2]

 

وقبيلة الجوازي عرفت بتربيتها للخيول العربية الأصيلة وتوريد الجمال والماشية من برقة لأهم المدن على طول مجرى النيل. وكذلك قصتهم الشهيرة مع والي مصر، محمد سعيد باشا اصغر أولاد محمد علي باشا سنة 1854م، المعروفة بقصة "عمر المصري والطرابيش المغربية" عندما أراد ان يضرب أولاد علي بالجوازي وما ترتب على هذه الأحداث من قتل وغدر. أما الفوايد المشهورة في الصعيد المصري بالمنيا أصحاب الباع الطويل في سعة المال ومكارم الرجال وفي مقدمتهم بيت الكيشار الحائزين لأكبر الألقاب والرتب في مصر. وعائلة الكيشار هم أخوال الشيخ عبد السلام الكزة، أحد عمد قبيلة العواقير، ومن ذوي الشأن والرأي في جهاد برقة ضد إيطاليا. وبإعدام الشيخ عمر المختار وتوقف القتال في برقة هاجر الشيخ عبد السلام إلى مضارب أخواله وعاش هناك معززاً مكرماً بينهم ينتظر العودة للوطن حتى وافته المنية في المنيا سنة 1940م. ومن مشاهير آل الكيشار لملوم بك السعدي الذي انتدبته الحكومة المصرية والتركية في بنغازي لرأب الصدع بين قبائل برقة مرات عديدة. كذلك محمد عبد الله لملوم عضو لجنة الدستور والسيد عبد العظيم المصري أحد مؤسسي بنك مصر. ومن خدور نسائهم كانت السيدة عالية [3] بنت واحد من اكبر أنصار السنوسية في مصر عبد القادر باشا لملوم – وحفيدة لملوم بك السعدي - التي ذاع صيتها عندما اقترنت بملك ليبيا، السيد إدريس ابن السيد المهدي السنوسي، في زواج تم سنة 1955م بحضور الرئيس المصري جمال عبد الناصر شاهداً رئيسياً على العقد في السفارة الليبية بالقاهرة.

 

ولهذا فإن مدناً مصرية كالإسكندرية والفيوم والمنيا وغيرها أصبحت عوضاً لهم عن حواضر برقة كبنغازي ودرنة. ففي الإسكندرية يوجد سوق المغاربة نسبة لليبيين الذين يسمون أحياناً بالمغاربة. وكل من يأتي من غرب مصر يسمى مغربي كما من يأتي أن من بلاد الشام يسمى شامياً وكذلك من بلاد السودان بالسوداني وهلم جراً. وفي سوق المغاربة يوجد شارع يسمى بـ "زقاق المغاربة" وكذلك "زنقة الستات" حتى يومنا هذا. وكلمة "زنقة" من الاستخدامات المغاربية التي أشاعها الليبيون في مصر. وفي هذا السوق تحاك افضل الأزياء البدوية الليبية – كاط ملف [4] - التي يشار إليها بالطرزة الاسكندرانية لجودة قماشها ورونق تفصيلها.

 

وتعيش هذه القبائل في ضواحي الإسكندرية إلى أقصى الغرب في عقبة السلوم على الحدود الليبية المصرية الحالية. وفي مثلث البحيرة، والواحات كواحة سيوة، وكذلك في الدقهلية والمنوفية والشرقية والغربية والجيزة. وفي الصعيد في الفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وغيرها من أراضي مصر. ويلاحظ تمركزهم في المناطق الريفية والصحراوية بعيداً عن الحواضر الكبيرة كالقاهرة والإسكندرية حتى ان المدن الكبرى خلت من الزوايا السنوسية باستثناء زاوية يتيمة في القاهرة، ومرجع ذلك عدم ملائمة المدن لنمط حياة هؤلاء البدو. فمنحتهم مصر الحرية في استيطان صحرائها ونعمة مياه نيلها التي حمتهم وحمت دوابهم من ظمأ رمالها القاحلة. وتكون بعض هذا القبائل مجتمعات مستقلة في قرى وعزب ونجوع كاملة سواء في الضبعة والعلمين والحمام وسيدي براني وبرج العرب والعامرية، أو في الفيوم وكفر الزيات والدلنجات، فعمروا طريق الصحراء من الإسكندرية حتى الحدود الليبية غرباً والصعيد جنوباً. ويتميزون عن بقية شرائح المجتمع المصري بطابعهم البدوي الليبي وهنالك نجوع خاصة بهذه القبائل كنجع القطعان وأولاد الشيخ وغيرها، ممن لا يزالون يتحدثون باللهجة الليبية البدوية ويتسمون بأسمائهم البدوية كاحميدة وعطيوة ومراجع وحمد وبوعباب وبو شناف وغيرها، وكذا طريقة قرضهم للشعر التي يستحيل تمييزها عن مثيلاتها في برقة.

 

[1] يوجد بمصر بعض المشاهير الذين يحملون لقب الجبالي. ولا ندري تحديداً ان كانوا من الجبالية الذين نحن بصددهم. ومنهم علي سبيل المثال الدكتور احمد عبد المعبود الجبالي وزير الزراعة واستصلاح الأراضي في عهدي عبد الناصر والسادات. كذلك الدكتورة تهاني الجبالي – تلك المرأة الحقوقية – التي أصبحت أول امرأة قاضياً في تاريخ القضاء المصري، كذلك مستشارة المحكمة الدستورية في مصر سنة 2003م.

[2] ابن غلبون – التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار (انظر الهامش الذي كتبه الشيخ الطاهر الزاوي) صـ 240-247.

[3] وينطق اسمها باللهجة البدوية في ليبيا ومصر "علية"، وليس "عالية" كما هو مكتوب.

[4] من الأزياء الشعبية التي تعود في أصولها إلى الأتراك. ويتكون الكاط –ملف من الزبون (جاكيت) ثم الفرملة (صديرية) والسروال. وهي مجموعة متجانسة من الملابس التي يجمعها وحدة اللون و الرقعة، وكذلك وحدة الزخرف الخارجي الموشى بخيوط من القطن أو الحرير. و كانت من لباس الأثرياء وبعض الرجال المهمين في الدولة إبان الحكم العثماني واستمر حتى يومنا هذا.

 

الجزء الثامن     (د. فرج عبدالعزيز نجم)

2- الـهجرة إلى مـصـر

 

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار حجم قبيلة أولاد علي الذين يزيد تعدادهم عن المليوني نسمة - مما جعلهم اكبر قبيلة عربية في مصر - والجوازي الذين يقدر البعض عددهم بمئات الآلاف، بل يؤكد بعض الجوازي بأن عددهم يصل قرابة المليون. أضف إلى ذلك القبائل الآخرة السالفة الذكر سواء في مصر أو تونس، أو حتى تشاد التي نعرف عنها القليل، فان الرأي الذي يقول بان عدد الليبيين خارج الوطن اكثر ممن هم بداخله فيه الكثير من المصداقية مما يرجح قبوله. فقبيلة أولاد علي أكبر قبيلة ليبية هُجرت إلى مصر، ومن ثم تبعتها قبيلة الجوازي - ثاني اكبر قبيلة في برقة - والتي هُجرت على بكرة أبيها قسراً إلى مصر باستثناء عدد من العوائل التي ذهبت إلى الجزائر والمغرب الأقصى والبعض الأخر الذي انطوى تحت قبائل وعوائل أخرى في ليبيا. ولكن بقت أسباب وحيثيات هجرة أولاد علي من القضايا الغامضة ليومنا هذا بقدر غموض ولائهم القطري. فعندما سألت بعضهم إلى أي القطرين، مصر أو ليبيا، ينتمي ؟ كان الجواب الذي ردده لي أكثرهم هو أنهم عرب بدو يعيشون في مصر، لا يعّرفون أنفسهم بالمصري أو الليبي. وإنما يرتاحون مع الهوية كعرب بدو عاشوا في فترة من الزمن في برقة ويعيشون الآن في مصر … وكفى.

 

 

ومن الوثائق النادرة التي تسرد لنا قصة تهجير أولاد علي "تجريدة حبيب". تلك الرواية الشعبية حفظت لنا اكبر هجرة قبلية عرفتها ليبيا منذ هجرة قبيلة زويلة البربرية عن فزان إلى مصر في القرن العاشر ميلادي. وينسب إلى زويلة ذاك الباب العظيم ذو المنارتين الذي لازال يعرف بباب زويلة في القاهرة. وتجريدة حبيب تداخل فيها كثير من الخيال مع الحقائق، ويغلب على هذه الهجرة الرواية الشعبية التي اصطبغت بالنزعة الأدبية وتوسع فيها الخيال إلى ما بعد المعقول، فأصبحت كقصة "أبوزيد الهلالي". وما يجرح الرواية كونها وردت من طرف واحد وهو الطرف المنتصر - قبيلة العبيدات وحلفائهم المحليين من البدو - بينما أهملت ذكر دور الحضر والتواريخ وحتى الحاكم التركي إلا عرضاً. على أي حال، تبقى هذه الرواية بعلتها تحكي مضمون ما صح في شأن إحدى كبرى قبائل ليبيا من تنكيل وتهجير. اختلف البعض حتى في تواريخ حدوثها فالمؤرخ البرقاوي المرحوم بازامه يقدر أنها حدثت سنة 1633م. بيد ان الأستاذ خيرالله فضل عطيوة في دراسته التي أعدها حول هذه القبيلة - وهو من أبناء القبيلة وشغل منصب أمين عام محافظة مطروح التي تشكل قبيلته الأغلبية فيها – يقول ان التجريدة كانت في سنة 1670م.

 

وبالرغم ان هذه القبائل كادت تنعزل في نجوعها الخاصة داخل مصر إلا أنها سرعان ما التفت مع الحركة الوطنية في التصدي للحملة الفرنسية التي قادها نابليون على مصر. هذا التصدي تمثل في حالتين متتابعتين. الأولى قاد فيها الشيخ محمد المهدي شيخ أولاد علي بالبحيرة جانباً من حركة المقاومة الشعبية المصرية في دمنهور وسنهور والرحمانية بمنطقة البحيرة، وذلك عندما بدأت الحملة الفرنسية بالإسكندرية في يوليو من عام 1798م. وكان حينها عدد سكان الإسكندرية لا يزيد وقتئذ على ثمانية آلاف نسمة بينما قوة الغزاة فاقت 36,000 مقاتل مزودين بأحدث معدات أوروبا الحربية. فما كان على حاكم الإسكندرية، السيد محمد كريم، إلا ان يبعث إلى بدو قبائل أولاد علي والجميعات والهنادي بالبحيرة يستنجد فيهم غيرة الإسلام ونخوة العرب ويطلب منهم تلبية واجبهم الديني والوطني نحو مصر. فتجمع فرسان هذه القبائل مع الفلاحين والتحموا مع الفرنسيين في عدة مواقع وقتلوا المئات من جنود العدو مما أعاق تقدمهم نحو القاهرة. والثانية عندما وقف أبناء قبائل الجبل الأخضر ببرقة أمام الغزاة الفرنسيين الذين أرادوا إنزال جنودهم في ميناء درنة ومن ثم عبور الصحراء الشرقية لكي يواصلوا سيرهم إلى الأراضي المصرية براً في شهر يونيو من سنة 1801.

 

وبعد اندحار الفرنسيين بدا للعيان ثقل هذه القبائل في الساحة، ولفتت قبيلة أولاد علي نظر المهتمين والمتطلعين. فكان الشيخ محمد المهدي من المتصدرين على مسرح الحوادث السياسية، واشترك مع السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي وغيرهم في تولية محمد علي (الكبير) باشا والياً لمصر. [1] وقد ساهمت قبيلة أولاد علي في حملة محمد علي باشا ضد المماليك ومذبحته الشهيرة لهم في القلعة ومطاردة من بقى من المماليك في الوجه البحري إلى أقاصي الصعيد الذين كانوا يبتزون الفلاحين بتلك الضرائب الجشعة. وقد كان انحياز أولاد علي لمحمد علي الكبير الأثر العظيم في ترسيخ الحكم العلوي في مصر. [2] وساعد هذا التعاون في المقابل أولاد علي على استغلال هكذا علاقة مع الحكام في إجلاء قبيلة الهنادي عن البحيرة إلى الشرقية ومن ثم إلى الشام، مما مكن لأولاد علي من ثلثي البحيرة. ومن بعد فيما سمي بثورة العرب – بعد وفاة محمد علي باشا (1770-1849م) – وفي عهد سعيد باشا سنة 1864م التي استثارت فيها الحكومة المصرية أولاد علي لمحاربة الجوازي ولكنها بأت بالفشل. وبالرغم من محاولات المماليك إخضاع قبيلة أولاد علي وحلفائها من العربان في القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلادي فان تلك المحاولات الابتزازية بآت بالفشل. فاستمال محمد علي باشا أولاد علي بالتودد إلى مشايخهم فجند فرسانهم وقوى بهم جيشه وساروا مع ابنيه طوسون في حملته على الحجاز وثم إبراهيم في غزو بلاد الشام والأناضول. وتحت الرايات والأعلام المصرية قاتلوا في بلاد المورة وكريت باليونان، كما قاتلوا وهزموا الأمير سعود الكبير ومن بعده ابنه عبد الله ورجالهم، وأتباع الحركة الوهابية في الحجاز ونجد سنة 1811م/1226هـ، ثم اتجهوا جنوباً نحو النوبة والسودان وما جاورها من الأقاليم الاستوائية.

وأشارت بعض الوثائق التاريخية ان احمد عرابي باشا عندما ثار على الإنجليز سنة 1882م كتب مستنجداً وطالباً العون من القبائل العربية في مصر وبرقة. ويذهب المؤرخ اللبناني الدكتور نقولا زيادة ومؤرخ السنوسية المرحوم الطيب الأشهب إلى القول ان عرابي في جملة من راسل من رجالات السنوسية راسل والد الأخير. وهذا مما أرق القنصل الإنجليزي في طرابلس، فاستفسر من حكومة الولاية عن صحة التقارير التي تتحدث عن جاهزية خمسة آلاف مقاتل من بدو برقة، وهم رهن إشارة المهدي اذا ما طلب منهم الدخول إلى مصر. ويستنبط الدكتور الدجاني في رسالته عن السنوسية "ان المهدي لم يحاول نجدته لعدم اقتناعه بجدوى الثورة ". وهذه لم تكن الحالة اليتيمة التي رفضت فيها الزعامة السنوسية ورجالاتها التدخل. فقد رفضت طلبات كل من الحكومة العثمانية لمساعدتها في حربها ضد روسيا القيصرية سنوات 8-1876م، وكذلك طلب المهدي، إمام السودان، في مقاومته للاستعمار الإنجليزي عام 1883م، نظراً لعدم قناعة الحركة بجدوى هذه الحروب ومن يديرها من في طرف الإسلامي.

 

ولعله من نافلة القول ان اذكر الشيخ محمد عليش (1802-1882م) - شيخ المالكية في مصر وأستاذهم وخريج وشيخ الأزهر الشريف. والشيخ من أصول طرابلسية ترجع إلى منطقة غريان ولد وتوفي بمصر، واتهم بدعمه لثورة عرابي، فقبض عليه وهو عليل والقي به في مستشفى السجن فتوفي فيه. ترك اكثر من عشر تصانيف منها "منح الجليل على مختصر خليل" و "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الأمام مالك"وهي عبارة عن مجموع فتاويه. والشيخ عليش صاحب السجال مع السيد الأمام محمد بن علي السنوسى، حيث ان الشيخ العليش حمل بشدة على قول السيد الأمام بفتح باب الاجتهاد وعدم التقيد بالمذهب. وينقل الدكتور الدجاني تلك العداوة التي صدر بها الشيخ محمد عبده كتابه "الإسلام والنصرانية" عما جرى بين الشيخ والسيد فيقول:

 

" ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسى كتب كتاباً في أصول الفقه زاد فيه بعض المسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه انه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة، وقد يخالف رأي مجتهد ومجتهدين، فعلم بذلك أحد مشايخ لمالكية ]عليش[ وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر، فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسى ليطعنه بها لأنه خرق حرمة الدين … وإنما الذي خلص الشيخ السنوسى من الطعنة ونجى الشيخ المرحوم عن سوء المغبة وارتكاب الجريمة باسم الشريعة وهو مفارقة السنوسى للقاهرة قبل ان يلاقيه الأستاذ المالكي ".

 

أما الشيخ عبد العزيز خليل جاويش (1876-1929م) من مواليد الإسكندرية، وهو الأديب المصلح المصري الكبير ابن

 

عبدالعزيز جاويش

الشيخ خليل جاويش - الليبي الأصل من مدينة مصراتة قبيلة يدر – استقر بهم المقام في مصر. تخرج من الأزهر ثم اختير أستاذاُ للأدب العربي في جامعة كمبريدج. رجع إلى مصر وآزر مصطفى باشا كامل في تأسيس الحزب الوطني ومن ثم رأس تحرير"اللواء" جريدة الحزب سنة 1908م، كما شارك في إنشاء جمعية الشبان المسلمين التي رأسها الغيور على الإسلام اللواء محمد صالح حرب. فكان الشيخ عبد العزيز خطيباً مفوهاً، نصب نفسه مدافعاً عن الإسلام وأهله، فألهب بخطبه الحماسية كل جنان، وكان من أنصار الجهاد في ليبيا والمهاجرين منهم في مصر. كما كان من أعوان وخواص السيد احمد الشريف، ولم يبخل يوماً ما على السيد بالنصح والمشورة والنصرة. توفي الشيخ عبدالعزيز في القاهرة عام 1929م.

 

[1] الفردي – قبائل أولاد علي و الحملة الفرنسية على مصر صـ 9.

"بعد تولي محمد علي باشا الحكم في مصر (1805-1848م) خلفه في الحكم ابنه إبراهيم (1848-1848م) ومن ثم إسماعيل باشا (1863-1879م) ابن إبراهيم الذي تلقب بالخديوي عام 1867م بعدما دفع أموال طائلة لحكومة الباب العالي في اسطنبول. والخديوي أصلاً كلمة فارسية وتعني الحاكم، ولكن لم يتمتع بها كثيراً حيث خلع و نصب ابنه توفيق باشا (1879-1892م) خديوي مصر الجديد وفي عهده احتل الإنجليز مصر عام 1882م وحدثت في عهده الثورة العرابية، ومن بعد توفيق تولى الخديوية في مصر عباس حلمي الثاني وكان أخر حاكم لمصر يعرف بالخديوي. أما حسين كامل (1914-1917م) أول من عرف بالسلطان وخلفه احمد فؤاد الأول الذي في عهده وضع دستور مصر الجديد عام 1923م وبموجب ذلك أصبحت مصر ملكية دستورية وتغير لقب فؤاد من سلطان إلى ملك عام 1922م، ومن ثم خلفه ابنه فاروق ومن بعده أحمد فؤاد الثاني الذي كان أخر حاكم علوي حتى ثورة 23 يوليو 1952م."

[2] نسبة لجدهم المؤسس، محمد علي باشا، وليس للعلويين من نسل الإمام علي كرم الله تعالى وجه.

 

الجزء التاسع      (د. فرج عبدالعزيز نجم)

1- الـهجرة إلى تونـس

 

أما تونس فالاحتكاك الليبي بها فكان اعمق واكثر تبادلاً من غيرها. حتى إذ ما داهمت تونس كارثة ما فان أصدائها سرعان ما تداهم أبواب طرابلس كما فعل ذك الطاعون القاتل عام 1785م. أما بهاء تونس فكان حاضراً في طرابلس، فتعلق الليبيون بجمالها، وخاصة جزيرة جربة التي أرخ لها الشيخ أبورواس من أهل جبل نفوسة، حتى أصبحتا مضرباً للأمثال في الخيرات وحسن الجمال. وهذان المثلان الشعبيان يعبران عن مشاعر نفسية وارتباطات اجتماعية تجمع الليبيين بتونس، فيقال:

 

"اللي ما شبح تونس تعجبه الحنايا"[1] و "وصلني لجربه وخود حماري".

 

فعرفت تونس الهجرات الليبية منذ الأمد، وازدادت مع المد الإسلامي سواء كانت بالقبائل البربرية التي نزحت إليها من ليبيا بعد الفتح الإسلامي أو تلك التي كانت تحت وطأة زحف بني هلال وسليم كما حدث مع قبيلة هوارة التي أجليت عن منازلها في قصور بني خيار، شمال مسلاته، جراء الزحف العربي ونزلت في المحرس بتونس ما بين قابس وصفاقس. أو الهجرات اللاحقة في العهد العثماني، حتى أصبحت أي مدينة أو منطقة في تونس الايالة لا تخلو من عائلة ذات أصول ليبية وخاصة المناطق المعروفة بخصوبة أراضيها ووفرة مياه. وكذلك هجرة التوانسة – بما فيهم اليهود والأندلسيين – إلى ليبيا وخاصة التجار الذين استقروا في مدينتي بنغازي ودرنة خلال القرن التاسع عشر. وكذلك بيت الجلاصي في ترهونة وترجعه المصادر التاريخية إلى القبيلة التونسية المعروفة بنفس الاسم. كما إلى تونس ترجع أصول شاعر الوطن الليبي، احمد رفيق المهدوي، الذي كان جده قنصلاً لتونس في بنغازي في العهد العثماني الثاني.[2] بل ان كثيراً من الأسماء التونسية شاعت بين الليبيين مثل المهدوي والمستيري (المنستير) والبنزرتي والقابسي والتونسي والجربى [3] والقرقني وزغوان والحامي والجريدي والمطماطي والقمودي[4] وغيرها. ولكن الأثر الأكبر هو ما طبعه الليبيون بتونس. فتونس غصت بوجود أعداد تتفاوت لقبائل وعوائل طرابلسية من ولاية طرابلس الغرب كما هو الحال، ولو بمستوى اقل، مع قبائل برقة في مصر. وتوجد كثير من القبائل والآلاف من العائلات التي تنقسم على خط الحدود، كقبيلتي النوايل والمرازيق، يعيش بعضها في ليبيا والأخر في تونس. بل إن عدد كبيراً وقدره البعض 80% من سكان منطقة الاصابعة في الجبل الغربي هاجروا إلى الأراضي التونسية. ويمكن القول ان اكثر سكان جبل نفوسة لهم ممثلين في تونس، وتعتبر ككلة المنطقة الليبية الأولى في كثرة عدد المهاجرين منها ويأتي بعدها في الترتيب من حيث أكثرية تيارات الهجرة من كاباو ويفرن. وتمتع الليبيون بخصوصيتهم في الأجواء التونسية فكانت لهم مشيخاتهم الخاصة بهم ذات الدلالة المناطقية الليبية مثل المشيخة الطرابلسية والغدامسية والفزازنة.

 

والملاحظ ان كثيراً من الأسماء والمسميات الليبية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة التونسية، فمثلاً تجد اسم الطرابلسي والترهوني والورفلي والغرياني والفرجاني والرياني والغدامسي والمصراتي والزليطني والقماطي والككلي والرقيعي والزواري واليفرني والورشفاني وغيرها من الأسماء التي اندمجت في منظومة الأسماء التونسية إلى يومنا هذا. بل ان هنالك مناطق وأحياء كاملة في المدن والقرى التونسية ترجع في جذورها إلى قبائل ومدن وقرى ليبية كمنطقة ورفلة، نسبة إلى قبيلة ورفلة، التابعة لمعتمدية تستور تبعد 5 كيلومترات شرق السلوقية، ومنطقة ترهونة، نسبة إلى قبيلة ترهونة، جنوب مدينة الفحص بعشر كيلومترات. وجبانة المحاميد، نسبة إلى قبيلة المحاميد الذين كانوا يدفنون أبناء القبيلة فيها. ووادي الطرابلسية الذي يمتد من سفح جبل بوقرنين في اتجاه حمام الأنف. وكذلك حومة الطرابلسية بالمنستير التي أنجبت اشهر شخصية تونسية من

 

الحبيب بورقيبة بالزي الليبي

أصول طرابلسية وهو الحبيب بورقيبة (1903-2000م) مؤسس دولة تونس الحديثة. وعائلة بورقيبة - التي كانت المشيخة الطرابلسية آنذاك في المنستير فيهم - هي من العوائل الثرية في قبيلة الدرادفة من كراغلة مصراتة.[5] هاجر جدهم عبر البحر إلى تونس عام 1795م نتيجة ضغط سياسات القرمانليين التعسفية. والرجل الثاني بعد بورقيبة في تونس ما بين 1956 إلى 1970م كان الباهي الادغم، من أصول مصراتية في قبيلة يدر-كراغلة، هاجر أجداده إذبان الحكم القرمانلي. كان الباهي الادغم من ابرز المناضلين في صفوف الحزب الدستوري الذي توج كفاحه باستقلال تونس في 20 مارس 1956م. وفي عهد الاستقلال تقلد مناصب سياسية رفيعة كان أبرزها منصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) للحكومة التونسية حتى عام 1969م. وكذلك ممن برز على ساحات تونس السياسية والأدبية عائلة بن ميلاد، وهم من قبيلة المحاميد من بلدة صرمان. وعائلة الزليطني في جربة وتونس. وهم من القدماء قي تونس وخاصة منهم الأمام محمد احمد الزليطني الذي كان إماماً وخطيباً بجامع الزيتونة حتى وفاته بتونس سنة 1406م/808هـ. ومن رجالات الحركة الوطنية

 

الحبيب بورقيبة صبياً (وسط) مع والده وإخوته

ضد الفرنسيين في تونس كان علي الزليطني الملقب بـ"قائد النضال الحزبي". وكان ممن اشرف على تأسيس أول مدرسة حربية لجامعة تونس، ولعب دوراً محورياً في إذكاء المقاومة السرية والمظاهرات التي عمت البلاد من سنة 1952 إلى 1954م، وعندما ضيق عليهم في تونس انتقل إلى ليبيا واشرف على تدريب المناضلين الذين ساهموا في معركة التحرير ونال الكثير منهم الشهادة في سبيل ذلك. وعرف عن علي الزليطني انه كان من المنحازين إلى صالح بن يوسف[6] ضد الحبيب بورقيبة، ومن المؤمنين بان استقلال تونس غير قابل للمساومة أو أنصاف الحلول. ومن الزليطينية كان الدكتور محمد لطفي الزليطني الذي اكمل رسالة الدكتوراه عن المتنبي في جامعة لندن في SOAS معهد دراسات الشرقية والأفريقية. وكان له شرف السبق في إكمال رسالته في اقصر فترة في تاريخ الجامعة (1975-1977).

 

[1] والحنايا تقع في مدخل تونس وهي عبارة عن قنوات مرتفعة يجري بها الماء من عين زغوان إلى تونس المدينة. وكانت الحنايا تشد أنظار الوافدين الغرباء لجمالها – ولكن هناك تونس الأجمل والأروع – والذي لم ير تونس بعد تعجبه الحنايا (أو كما قال الأستاذ علي مصطفى المصراتي في كتابه عن التعابير الشعبية).

[2] احمد محمد المهدوي كان وكيلاً تجارياً (قنصل) لتونس في بنغازي ومن ثم ابنه الذي تقلد عدة مناصب منها قائمقامية فساطو التي ولد بها ابنه احمد رفيق المهدوي.

[3] يوجد في طرابلس شارع كبير يسمى شارع الجرابة.

[4] هناك منطقة تسمى قمودة بولاية سيدي بوزيد بتونس.

[5] أغسطيني (تعريب وتقديم التليسي) – سكان ليبيا (القسم الخاص بطرابلس الغرب) صـ 267.

راجع: السعيد – بورقيبة صـ 33-34. و الأستاذ الصافي السعيد يراوح في كتابه السالف الذكر عن أصول آل بورقيبة بين الألبانية واليهودية من مدينة سولونيك اليونانية الذين أتوا مع الأتراك إلى ليبيا ؟ ونحن في ليبيا نستبعد ذلك و لا نعرف إلا انهم من السكان الأصليين.

[6] كان منافساً لبورقيبة لدرجة العداء. ولذلك تشير الشواهد ان بورقيبة وحاشيته كانوا وراء اغتياله في ألمانيا عام 1961م.

 

الجزء العاشر         (د. فرج عبدالعزيز نجم)

2- الـهجرة إلى تونـس

 

وكذلك من الأحياء المعروفة في تونس حي الغدامسية، ونهج الفزازنة قرب ساحة باب سويقة بتونس العاصمة إلى يومنا هذا، اللذين سكنهما الأهالي الذين وفدوا من غدامس وفزان. وفي منطقة الناظور (سابقاً جبيبينة) في ولاية زغوان يوجد حي الصبييعية، نسبة إلى من وفد من الاصابعة الليبية، ولا يفصلها في الجهة المقابلة إلا أمتار عن منطقة الحمر (والحمر يقصد بهم أهل تونس الأصليين)، وغير ذلك من الأسماء والمسميات. كما لا ننسى ان جامع الزيتونة غص بالطلاب الليبيين كما كان الأزهر ورواق المغاربة الشهير به. ولعل اشهر ليبي زيتوني كان الشيخ سليمان باشا الباروني – من أمازيغ ليبيا وابن بلدة جادو في جبل نفوسة – رافق ودرس مع الشيخ عبد العزيز الثعالبي، أحد أعلام تونس، سنة 1886م. والشيخ الباروني من المشهود لهم في السياسة والعلم ورجاحة العقل، وكذلك ضراوة جهاده ضد الطليان. اضطر للهجرة فوجد المرغ الفسيح في العراق وعمان، ومن ثم رافق سلطان عمان، سعيد بن تيمور آل سعيد، حيث كان يعمل مستشاراً خاصاً له، ولكن وافته المنية في بومبي مثخناً بجراح الغربة والآم الفراق سنة 1940م.

 

ومن أحد أسباب الهجرة من ليبيا إلى تونس كان الاستقرار السياسي الذي تمتعت به تونس وافتقرت إليه ليبيا في الحقبة القرمانلية. ويجب إلا يغيب علينا استحالة تحديد الحدود الليبية التونسية لان تونس وطرابلس لم يكونا أقاليم جغرافية بالمعنى الذي تحدده خطوط الطول والعرض، بل كانتا متداخلتان اجتماعياً واقتصادياً اكثر من تداخل طرابلس وبرقة آنذاك. ومن العوامل التي شجعت الهجرة الليبية تلك الأوبئة التي قضت على اكثر من نصف سكان الايالة التونسية سنة 1865م/1282هـ. ففرغ كثير من الحقول والعاملين بها الذين كان يعج بهم الريف التونسي، مما استلزم جلب الأيادي الطرابلسية العاملة التي كانت تخبر الفلاحة ومتكيفة مع المناخ التونسي الشبيهين بالزراعة والطقس الطرابلسيين. كما أن القرب الجغرافي، وكثرة توفر هذه السواعد التي تعاني من تفشي البطالة في طرابلس وما نتج عنها من مجاعات واجهها الطرابلسية داخل الوطن نتيجة سياسات الضرائب الهوجاء، والجدب الذي كان يصيب البلاد من وقت إلى أخر كانت كلها عوامل مساعدة على الهجرة إلى تونس. فمن القبائل التي هاجرت إلى تونس كل من ترهونة وورفلة والرقيعات والزنتان والاصابعة وورشفانة والعلالقة والرياينة والبلاعزه والعلاونة والبركات، وبعض سعادي برقة كالعبيدات والعرفة. ومن المرابطين كالمزاوغة والعجيلات والمراغنة والفرجان وأولاد مسلم والزليطنية (وهم الفواتير وأولاد الشيخ والعمايم والبراهمة وأولاد غيث والكراغلة) وغيرهم.

 

واستقر معظمهم في الساحل والوطن القبلي. فانتشروا في تونس العاصمة، والقيروان وسوسه وسليانة وجربة وجرجيس وقفصة وصفاقس وزغوان ونابل وقليبية وقرنبالية ووادي الرمل وخنقة الحجاج وبنزرت وباجة والمحمدية وغيرها من مدن وقرى تونس. حتى ان صفاقس كانت تقسم إلى أربع فئات من السكان الأصليين، والقادمين من دواخل تونس، والطرابلسية، والأتراك. والقبائل الليبية، اذا صح الاصطلاح، تسمى في ليبيا إجماعاً بالقبائل، وفي برقة تضاف كلمة البادية لتميزهم عن القبائل المتحضرة والمقيمة في المدن، وفي مصر تعرف بالعرب أو العربان و أحياناً كما في الشام يعرفون بالمغاربة، أما القبائل الليبية في تونس فتعرف بالعروش الطرابلسية. وكلمة عروش تعني تارة قبيلة - واذا كبرت القبيلة تعني بيوت تحت مظلة القبيلة – ولكن المقصود بالعروش هو النسق أو الإطار القبلي لأبناء الجالية الليبية. وجمعت بين الليبيين والتوانسة ، كما هو الحال في المهاجر التي لجأوا إليها، روابط الاخوة في الدين والدم سواء الإسلام بمذهبيه المالكي والأباضي أو العروبة و الامازيغية وما نتج عنهما من تعريب للمنطقة.

 

عاش الليبيون في وئام مع اخوتهم التوانسة واصبحوا كالجسد الواحد يتأثرون بكل المؤثرات والعوارض، وكل ما مرت وتمر به الديار التونسية من قلاقل سياسية واقتصادية واجتماعية. فإلى جانب الفلاحة والرعي برع الليبيون في تربية الخيول الأصيلة وترويضها حتى ان وزارة الحرب التونسية اشترت منهم أعداداً لاستخدامها ضمن تجهيزاتها القتالية. وهذا جرهم إلى التجند في صفوف عسكر المزارقية،[1] حيث التحق أبناء العروش الطرابلسية فيما عرف بالمزارقية - وتعني الفرسان المقاتلين - الذين تعتمد عليهم الدولة في خدمتها سواء في جبي الضرائب أو الحروب. وانخرط بعض الطرابلسية في صفوف المزارقية باستثناء المزاوغة و الفرجان وترهونة الذين رأوا في كونهم خدام و أبناء زوايا لا يليق بهم هكذا عمل، وكذلك ضعف المردود المالي الذي يتقاضوه مقابل ذلك أثناء الخدمة. فزاد هذا، على أي حال، من قدرات الطرابلسية وخبرتهم القتالية مع ثقتهم و غيرتهم على تونس بلدهم الجديد، فالتحم الليبيون مع بقية البدو وأهالي الريف التونسي في الانتفاضة التي قادها علي بن غذاهم عام 1864م، لأنها عبرت عن حنقهم إزاء الظروف السيئة التي جرتها عليهم الضرائب التي زيدت بنسبة 100% أو اكثر. وهذه هي نفس الظروف التي اضطرت بعضهم للجوء إلى تونس، فأجبرت هذه الانتفاضة الحكومة على العدول عن إجراءاتها الجائرة والرجوع إلى ما هو معقول من جباية للضرائب. وهذا الشعور بمسؤولية المواطنة حتم عليهم القيام بدور لا يقل أهمية في التصدي للمستعمر الفرنسي مع إخوانهم التوانسة عام 1881م.

 

وقام المهاجرون الليبيون بدور محوري في الحياة الاقتصادية، فاشتغلوا في مناجم الفوسفات بمنطقة الجنوب حتى وصلت نسبتهم إلى 50% على حين شكل التوانسة 40% و الجزائريون 10% فقط من مجموع القوة العاملة تحت الإدارة الفرنسية. كما امتهنوا الحرف الأخرى كامتلاك وإدارة المخابز التي عُرف بها أبناء ككلة في تونس كما في ليبيا. و بالرغم من قوة المؤسسات الدينية التونسية، وخاصة الزيتونة وجربة، و تأثيرها على التكوين العلمي لكثير من الليبيين فان الزوايا الليبية في تونس وجد لها حضور ملحوظ. فانتشرت كثير من هذه الزوايا و في مقدمتها السنوسية، وأخر كزاوية سيدي شايب الذرعان،[2] وزاوية أولاد المرغني وزاوية أولاد بوعائشة وغيرها.

 

والتشابه بين القطرين بلغ حداً كبيراً بحيث يصعب التمييز أحياناً بين ما هو طرابلسي أو تونسي. فالزي الطرابلسي لا يبعد كثيراً عن الزي التونسي وخاصة النسائي، وكذلك الأكلات الشعبية والطرب كالموشحات المعروفة بالمألوف. أما لهجة الجنوب التونسي فهي قريبة جداً من اللهجة الطرابلسية وخاصة جنوب وغرب الولاية مما وحد بين الشعر الشعبي في البلدين حيث مثل الشعر الوحدة المتكاملة من حيث بنية القصيدة وأغراضها.

 

[1] المزارقية نسبة إلى المزراق (وتعني الرمح) كناية عن من يحمل السلاح من رجال القبائل الموالية للحاكم. وقد اشتهر رجال هذه القبائل بالخدمة في صفوف عسكر الحكومة. ولعلها المرادفة للكراغلة في ليبيا و الخزنة (قبائل المخزن) في الجزائر الذين أنيطت بهم مهام إدارية وعسكرية مقابل إعفائهم من الضرائب ومنحهم بعض الامتيازات.

[2] ويقصد بشايب الذرعان الشيخ عبد السلام الأسمر دفين مدينة زليطن. ويقال انه اكتسب هذا اللقب للشيب الذي اشتعل في شعر ذراعيه.

 

الجزء الحادي عشر   (د. فرج عبدالعزيز نجم)

الـهجرة إلى تشـاد

 

أما تشاد فكانت خياراً أخر للقبائل الليبية التي فضلت الاتجاه جنوباً صوب بلاد السودان نظراً لتوفر المياه والمراعي الخصبة وكذلك لقرب مناخها من مناخ الليبي. ولكن الأهم هوعدم وصول حكام طرابلس أليها بسهولة وضعف حكوماتها المركزية المتمثلة في سلاطينها. بدأت هذه الهجرات بصورة جماعية بعد انتكاسة ثورة عبد الجليل سيف النصر التي انتهت بهزيمته وقتله سنة 1842م فتشتت القبائل التي كانت تقاتل جنباً إلى جنب مع قبيلته من أولاد سليمان وحلفائهم من المناصير. فهاجر من ليبيا إلى تشاد العديد من تلك القبائل وكان في مقدمتهم أولاد سليمان وورفلة والمغاربة (وخاصة بيت الرعيضات) الحساونة وبعض المرابطين مثل القذاذفة واستقر معظمهم في منطقة كانم (Kanem) قرب بحيرة تشاد.

 

وتفاعلت هذه القبائل مع بقية شرائح المجتمع التشادي فانصهر جميعهم في بوتقة الإسلام، وحدث بينهم كثير من التزاوج، وتلاقح مع بعضهم البعض دينياً وثقافياً وفكرياً. فاعتنق معظم التشاديين الدين الإسلامي على مذهب الأمام مالك، باستثناء بعض قبائل السارا الوثنية التي انتشرت بينها الكاثوليكية على يد المستعمر الفرنسي فيما بعد. ولكن احتلت اللغة العربية مكاناً هاماً وانتشرت، فأصبحت لغة التداول والتعليم بين الناس. [1] ومن مظاهر ذاك الاستقرار تحالف أوائل المهاجرين من قبيلة أولاد سليمان مع قبائل الكاديوا التشادية (Qadiwa). وسرعان ما تكرس وجود القبائل الليبية واستقلت واعتمدت على قوة رجالها ونفوذهم حتى أصبحت في حل من تحالفات كهذه. وبلغ التأثير العربي الإسلامي مداه حتى تسمى كثير من المدن والمناطق بأسماء عربية مثل أم زوير (Om Zoer) وبحر سلامات (Bhar Salamat) وبئر علالي (Bir Alali) ووادي غندور (Ouadi Kandor) ووادي حداد (Ouadi Haddad) وبحر غزال (Bhar Ghazal) وغيرها.

 

وهذا التكتل القبلي الليبي في بحيرة تشاد جعل منهم قوة أراد سلاطين كانم ووداي خطب ودهم، وتجنيدهم لخدمة سلطناتهم لما في هؤلاء البدومن شدة وقوة بأس. فلجأ إليهم الشيخ عمر بن محمد الأمين الكانمي (1835-1880م) زعيم برنووعقد حلفاً مع هذه القبائل لزجر منافسه سلطان وداي (1858-1874م) وردعه اذا ما سولت له نفسه بتهديد تجارة برنو، وحصل رجال القبائل بمقتضى ذلك على السلاح والعتاد. وبالفعل نجح هؤلاء البدوفي إنزال سلطان وداي عند رغباتهم، فاعُترف لهم بالسيادة على إقليم كانم. وأراد سلطان وداي أن يستميل القبائل الليبية حتى تقطع تلك التحالفات التي ربطتها مع غريمه، وتنضم لخدمته وذلك باغراءات شتى ولكنه لم ينجح. واستمرت هذه القبائل في صولتها في منطقة كانم حتى حملة العقيد جولون (Goulland) الفرنسية الاستعمارية سنة 1899م فوقفت هذه القبائل في وجه الغزاة وكونت حلفاً مع قبائل الطوارق والقرعان مما أبطئ التحرك الفرنسي داخل تشاد.

 

ومن المواقف التي يذكرها التاريخ بتقدير وإجلال وقفة الشيخ الشهيد غيث عبد الجليل سيف النصر في وجه المد المسيحي الفرنسي فيما عرف بحرب الأنصار في تشاد. وهوسليل بيت قيادة عرفت بين قبائل ليبيا باستعداديتها وقدرتها العالية على القتال، ولهم إسهامات في الحروب تفوق ما لغيرهم. وكان جده من رجال وأبناء عمومة الشيخ عبدا لجليل سيف النصر الذي بعثه يوسف باشا القرمانلي لنجدة الشيخ محمد أمين الكانمي في كانم سنة 1826م/1242هـ. ويقال إن الشيخ الكانمي أصوله من منطقة تراغن بفزان وكان من أجلاء العلماء الذين انتقلوا إلى كانم لنشر دعوة الإسلام بين أهلها. وبعد ان مكن له أقام مملكة توارثها من بعده أبناؤه دام ظلها قرابة ثمانية عقود. وبعد رجوع الشيخ عبد الجليل من كانم ظافراً غانماً استفحل أمره وثار على الباشا في ثورته المشهورة التي ساهمت في الإطاحة بالدولة القرمانلية بعد استيلائه على أراضٍ شاسعة من طرابلس ومعظم فزان حيث حوصرت الحكومة في الساحل والمنشية وما قاربها. ولكن بعد زوال حكم القرمانليين وإدارة ليبيا مباشرة من اسطنبول استطاع الأتراك الظفر به في معركة القارة بوادي سوفجين بأرض قبيلة ورفلة. فسقط قتيلاً هوومن معه في تلك الفتنة بين الأتراك والقبائل سنة 1842م/1258هـ، ومن ثم حز رأسه وبعث به إلى طرابلس لترعب وترهب الأهالي. والشيخ عبدا لجليل هوصاحب المخلاة الشهيرة "مخلاة عبد الجليل" التي أصبحت مثلاً في ليبيا للتنكيل بكل من يخالف الوعود وينكث العهود.

 

هذا وقد ارتأت القبائل الليبية ان واجبها الشرعي يحتم عليها القتال ذوداً عن الإسلام ودياره. وبالرغم من استمالة الفرنسيين للشيخ غيث وسعيهم لمقابلته بغرض إنهاء حركة المقاومة إلا انه رفض ذلك بشدة. وقاد الشيخ غيث سيف النصر مع إخوانه القادة أمثال الشيخ البراني الساعدي الزوي والحاج محمد الثني الغدامسي والشيخ الفضيل بوخريص الكزة خمسة آلاف من المجاهدين من أخوان السنوسية واغلبهم من قبيلة الزوية، وكذلك قبائل أولاد سليمان وحلفائهم من الليبيين كورفلة والمغاربة والقذاذفة، ومن التشاديين القرعان والطوارق في معركة بير علالي عام 1901م - وكان يوماً محتدماً عسيراً – فثبت الأبطال وصبروا حتى فاز الكثير منهم بالشهادة وفي مقدمتهم قائدهم الشيخ غيث عبد الجليل سيف النصر. وكان ذاك اليوم يوم الزوية حيث فاز ستين من رجالها بالشهادة من مجموع قدره مائة شهيد. ومن مشايخهم كان الشهيد أبوبكر قويطين الذي عندما سمعت أمه باستشهاده هوأبناء عمومته رفضت العويل والندب كما يفعلن النساء عند الفاجعة ولكن نثرت زغاريدها في الأفق وارتجزت قائلة:

 

انعنهم افدا لسياد اللي في علالي رقدوا

 

هذا وكانت للمجاهدين جولات وصولات مع النصر، ومما زاد في همتهم تلك النجدات التي جاء بها إخوانهم من القبائل الليبية في ليبيا بقيادة كل من السيد المهدي السنوسي ما بين عام 1899 وعام 1902م، ومن بعد وفاته استمر على نفس النهج خليفته وابن أخيه السيد احمد الشريف. واشهر تلك النجدات كانت فزعة قبيلة المغاربة من بيت بهيج، حيث جاء الشيخ مصطفى بوطيغان في كوكبة من فرسان المغاربة يزيد عددهم على السبعين من صفوة أبناء عمومته من برقة. وكان يوماً دامياً في تشاد، ففاز جميعهم بالشهادة عام 1907م.

 

وعندما رحل السيد المهدي من الكفرة إلى قرو(تشاد) في رحلة استغرقت الشهرين تقريباً واستخدم قرابة 3800 من الإبل في نقل كل ما خف وثقل من حاجاتهم من المؤن والكتب والأسلحة، وصحبه قرابة 1066 رجلاً من الأخوان وشيوخ قبائل والحاشية ومن ألح على مرافقة السيد إلى تشاد. ومن كبار أخوان السنوسية كان في مقدمتهم السيد احمد الريفي (مستشار السيد الخاص) والسيد حسن البسكري والسيد السنوسي الأشهب والسيد مصطفى المحجوب والسيد محمد الثني الغدامسي والسيد محمد الدردفي والسيد العلمي الغماري والسيد احمد البوسيفي.

 

وبقية هؤلاء الرجال كان معظمهم من قبيلة الزوية، المشهورة بالفروسية والشجاعة وزكاة دمائها التي طرزت رمال الصحراء ، فشكلوا أغلبية الركب، ولا نستطيع حصرهم لكون شيوخها وعوامها يعدون الخواص وحماة الحركة السنوسية في الجنوب وكذلك كون بلدتهم، واحة الكفرة، ثاني مدينة سنوسية وتحوي رفات السيد المهدي وعاصمة الحركة آنذاك. والجدير بالذكر ان السيد المهدي بهرته قبيلة الزوية بكرمها والتزامها بنهج السنوسي، وكذلك استجابتها لدعوته لتناسي كل الضغائن والأحقاد التي كانت بين بيوتاتها وأفرادها والقبائل الأخرى وخاصة التبو. ولم يتوقف الزوية عند ذلك، بل تنازلوا عن ثلث ما يملكون من نخيل وبساتين وأراضي وجعلوها حبساً ووقفاً من أوقاف الحركة السنوسية. وهذا الالتزام وما عقبه من استبسال في قتال أعداء الإسلام أينما كانوا، نقل قبيلة الزوية نقلة نوعية وجعلها تضاهي بفرسانها ودماء شهداء قبائل السعادي المعروفة تقليدياً بصولتها في برقة. وفي نظرنا معركة الكفرة كانت تتويجاً لمفاخرهم ضد الطليان، ففي عام 1931م جعلت قبيلة الزوية من أشلائها صداً منيعاً ضد جحافل الطليان الزاحفة على واحتهم، وكان في مقدمة الشهداء مشايخهم مثل صالح العابدية وسليمان بومطاري، فاستقبلوها وهم يتغنون بكبرياء الشهداء الأحياء "مرحب بالجنة جاءت تدنى". وخلف الشيخ صالح ابنه علي باشا العابدية الذي هاجر إلى الأردن وعاش في منطقة تقع على مفرق طرق، فتجمع حولهم كثير من العرب، واستقروا هناك واصبح علي باشا رئيساً لتلك البلدية التي عرفت فيما بعد بالمفرق، ولازال شارعها الرئيسي يعرف بشارع علي عابدية.

 

على أي حال؛ كان الكثير من شيوخ الزوية ممن رافق أوكان في انتظار السيد المهدي أمثال الشيخ الشهيد عبد الله الطوير (قتل في شمال تشاد 1906م) - والذي اصبح ابنه محمد فيما بعد نائباً في البرلمان التشادي - والشيخ الشهيد البراني الساعدي (قتل في شمال تشاد 1907م)، وخلفه من بعده ابنه الذي قاتل مع السيد احمد الشريف في مصر، ومن ثم رجع ولحق بالشيخ عمر المختار في حكومة اجدابيا. وكذلك الشيخ بوعقيلة الزوي. ومن قبيلة البراعصة الذين رافقوا السيد المهدي كان الشيخ مازق بوبكر حدوث، جد السيد حسين مازق،وشاعر البراعصة الشهير محمد بوفروة والد المجاهد السيفاط، والشيخ عبد الله حفالش والشيخ عبد ربه بوحنتيشه. وكذلك أحد أدلاء الركب وخبراء الطريق الشيخ الوجيه جاد الله زنين (من أولاد حمد). ومن قبيلة العواقير كان الشيخ الفضيل بوخريص الكزة والشيخ محمد عبد القادر الكزة. ومن قبيلة العبيدات محمد بوزيد ومحمد عقيلة، ومن المغاربة الشيخ عبد الهادي البراني والشيخ مصطفى بوطيغان بهيج، ومن قبيلة الدرسة الشيخ عبد الكريم موسى، ومن قبيلة المنفة الشيخ الرمز الشهيد عمر المختار والشيخ الشاعر رجب بوحويش شاعر معتقل العقيلة وصاحب قصيدة "ما بمرض غير دار العقيلة". وكان من المجابرة الحاج فتيته المجبري والحاج عبد الله البشاري، من قبيلة الجرار الشيخ محمد المهدي الجراري، وغيرهم من الرجال الذين لازالت سجلات التاريخ تحفظ لهم ذكرهم بكل ما هوخير.

 

خـاتـمـة

 

ان هذه القبائل عندما توفرت لها القيادات الراشدة سواء من أبناء جلدتها أودينها أثبتت أنها فاعلة وعلى قدر المسؤولية داخل الوطن وخارجه، كما أثبتت وفاءها لهذه الأمة ودينها. وخير من وصف نضال أبناء هذه القبائل الدكتور محمد خفاجي ، فقال:

 

" نضال اكسب الأمة العربية والإسلامية مجداً وفخراً وزهواً، بما سطره المجاهدون فيه على ارض ليبيا العربية من آيات البطولة والإقدام والتضحية والاستبسال في الدفاع عن حياض الوطن المقدس".

 

وان هذه القبائل كما رأينا لعبت أدواراً تفاوتت في حجمها ولكنها محورية، وهي بمثابة همزات الوصل بين وطنها الأصلي والأوطان التي رحبت بها بعد ما وقع عليهم من جور. فيجب علينا الاهتمام بهم وذلك بالدراسة والتدوين ورصد كل ما يمرون به من تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية وعلمية. كما يجب علينا جميعاً أفراداً وجماعات ان نستثمر هذا الولاء الذي تضمره هذه القبائل للوطن الأم، وأوطانها الحالية لما فيه من خير لليبيا والدول التي تعيش فيها، ونعطيها مزيداً من العناية، ونشجعها على مد الجسور بيننا وبين إخواننا العرب والمسلمين كما تراه هي، حتى نقوي عرى الأخوة والتبادل الاقتصادي مما يسهل لنا اندماجاً منشوداً مع دول الجوار يدر نفعاً ويؤدي إلى وحدة يفرضها الشرع علينا وتأمرنا إلحاحاته المتكررة لكي يستفيد منها جميع الأطراف المعنية.

 

 
 

 

 

جالو ليبيا
اخر تحديث: 20/06/2012م.