• الرئيسية • اخبار • مواضيع علمية • مواضيع ادبية • البوم الصور • روابط مختارة • سجل الزوار • المنتدى •

الرحالة احمد محمد حسنين باشا فى صحراء ليبيا

المصدر جريدة الراية القطرية زاوية ثقافة و ادب ركن صفحات في ادب الرحلات

المقال نشر على مراحل كان اخرها بتاريخ الأربعاء29/8/2007 م

"بعد عثوري على موقع احمد حسنين باشا باللغة الانجليزية و الذي ترجمت منه القليل و ارفقته ببعض الصور في مقال سابق بدأت البحث عن معلومات اكثر عن هذا الرحالة فعثرت على مقالة جميلة جدا تختصر بعضا من رحلته. قسمتها الى اجزاء و عنونتها حسب محتواها كما قمت بتظليل ما اعجبني او حاز على اهتمامى لمن لايحبذون المقالات المطولة مع نصيحتي لهم بان يقرأوا هذه المقالة و التي تحتوى على الكثير من الصور الادبية الرائعة و التي صور فيها رحالتنا الشاب الصحراء  (بشدتها و قسوتها, و غضبها و ثورتها, و جمال وجهها) و ما يمكن ان تغرسة فى نفس من يعيش فيها من خصال حميدة كالإيثار والتسامي وحب التضحية, رحالتنا لم يكن اديبا فقط و انما كان ملما بعلوم الفلك و الجيولوجيا و الجغرافيا فأستطاع ان يستثمر رحلته هذه احسن استثمار مع العلم ان اجدادنا خاضوا غمار هذه الصحراء قبل رحالتنا بكثير و لكنهم وان اتصفوا بكل ما تجود به الصحراء من صفات حمبدة لسكانها من حب التضحية و الإيثار و الشجاعة و غيرها إلا انهم افتقروا الى العلم الذى تسلح به رحالتنا فتفوق عليهم. فياليتنا نعي دور العلم فى تتويج خبرتنا و تجاربنا و تدوينها وان لا نقلل من قدر ما نعرف و ان نعطيه اهميته بتدوينه و تقديمه للناس. تصوروا معي لو ان احد اجدادنا قام بتدوبن كل كبيرة و صغيرة فى رحلاتهم الى الكقرة و تشاد وافريقيا الوسطي و ما واجههم من صعاب و متاعب و غيرها. فربما كان هو من نقراء له الان و نتذكره بكلماته التى لو خطها لدخل التاريخ....!!!! كما فعل رحالتنا احمد محمد حسنين باشا. و لشدكم و تشويقكم اكثر لقراءة القصة كاملة قمت برسم خط سير الرحالة من السلوم الى الكفرة موضحا عليه بعض التواريخ و الاحداث و المعالم انقر على الخريطة لتكبيرها"

مقدمة مشرف موقع واحة جالو

فهرس المقالة

  1. الشاعر علي كنعان و مقدمة لرحلة أحمد باشا

نيذة عن الرحالة و اكتشافاته

ماذا يقول الرحالة عن الصحراء (مدرسة الحياة) رغم مخاطرها

من سبق الرحالة من المكتشفين و ما يميزه عليهم و ماذا قال عن الغولة

ماذا كان يحمل من معدات و ما الهدف من الرحلة هل هناك مهمة سرية؟

  1. ما كتبه الرحالة عن الرحلة

الاعداد للرحلة و مراحلها (الرفيق قبل الطريق)

زاد اهل الصحراء (الشاي والبلح والماء)

الطريق الى سيوة و الجغبوب و( الفال بصيد الغزال)

كرم اهل الصحراء و قصة الدواء

الشرق (العرب) و الغرب(اوربا) و اعتقاد كلاهما في الاخر

الجغبوب و حيلة لشراء الابل من قافلة زوية

زوابع الرمال في طريق جالو و قسوة الصحراء و جَمالها الأخاذ

البلبال و الحاث و النشا على طول الطريق و استقبالنا فى جالو

عشرة ايام فى واحة جالو

شيوخ تجار صحراء ليبيا

تأجير الجمال فى جالو للذهاب للكفرة

حفلة الوداع فى جالو

انطلاق القافلة من جالو الي الكفرة


 

روابط على موقعنا

 

 

ملف يوضح الرحلة على

القوقل ايرث

الشاعر علي كنعان و مقدمة لرحلة أحمد باشا

نيذة عن الرحالة و اكتشافاته

 

أحمد محمد حسنين رحالة مصري، درس في جامعة أكسفورد بانجلترا وعاد إلي القاهرة سنة 1914م، فتولي مناصب هامة، وعرض علي الملك فؤاد الأول فكرة هذه الرحلة فأعجبته الفكرة وسمح بإعطائه إجازة طويلة، وأصدر أمره إلي الخزينة المصرية لمنحه جميع نفقات الرحلة التي قام بها سنة 1923 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره. كان عدد رجاله في قافلة الرحلة تسعة وثلاثين رجلاً، وعدد الجمال التي اكتراها الرجل خمسة وثلاثين، اضافة إلي الجواد الذي اشتراه في أثناء الرحلة. وقد انضم إلي القافلة أيضاً بضعة رجال آخرين من الراغبين في التجارة ومعهم جمالهم. قطعت القافلة، من السلوم علي الساحل المصري حتي وصلت مدينة الأبيض. عاصمة محافظة كردفان جنوبي الخرطوم في السودان، مسافة 3500 كيلو متر، علي وجه التقريب، واستغرقت الرحلة سبعة شهور وثلاثة وعشرين يوماً. لكن هذه الأرقام الجامدة لا تستطيع أن تعطي صورة معبرة عن المصاعب والمخاطر والأهوال التي عاناها رحالتنا المغوار ورجاله الصابرون الأوفياء. ويكفيه فخراً أنه اكتشف واحتين هما أركنو والعوينات وأثبت موقعيهما علي الخريطة. وحسبنا هنا أن نشير إلي أن ثلاثة من كبار الخبراء البريطانيين عكفوا علي دراسة هذه الرحلة ومحصلتها العلمية، وقاموا بفحص العينات ومقارنة الأرقام والملاحظات التي دونها الرحالة يوماً بعد يوم، وأحياناً ساعة بساعة، وشملت النواحي الجغرافية والفلكية الجيولوجية والطبوغرافية، وكان لها نتائج علمية بالغة الأهمية. من المؤكد أن الرحالة لم يحصل علي هذه الثمار العلمية بيسر وبساطة، لكنه كرس جهوده طوال شهور، وعرض حياته لأخطار التيه والهلاك، حتي أدركها وآتت أكلها بين يديه.

وأول ما يلفت النظر في هذه التجربة القاسية أن الخطر القاتل، المتربص في كل خطوة أو إغفاءة في قفار الصحراء الليبية، ليس توهماً مرضياً ولا هاجساً دخيلاً لكنه احتمال قائم صباح مساء. وهذه المكابدة الجسدية والنفسية، علي مستوي الإنسان ومطاياه من خيل وجمال، والتي امتدت مئتين وخمسة وثلاثين يوماً، تشكل مغامرة علمية استثنائية كان من محصلتها القيمة شق طريق بكر في تلك الصحراء الافريقية المترامية الأمداء، واكتشاف واحات كانت مجرد أحلام في خاطر المغامرين القدماء، اضافة إلي تحديد مكان الكفرة علي الخريطة ومركز آبار الزيغن ومواقع العديد من التلال والآبار الأخري. قطع رحالتنا، خلال تلك الشهور، آلاف الكيلومترات من الفيافي الجرداء الموحشة ليعود بما لم يستطع غيره من المغامرين الأوروبيين أن يعودوا بأكثر من نجاتهم، وبعضهم كانت نهايته الهلاك.

عودة للفهرس

ماذا يقول الرحالة عن الصحراء (المدرسة) رغم مخاطرها

 

الخوف من المجهول، سواء تمثل بالوحوش أو بالمغامرين الطامعين وقطاع الطرق، بقسوة الطبيعة والطواريء الصحية والمناخية أو بفقد الاتجاه الصحيح، فضلاً عن الخوف من نفاد الماء والزاد والدواء، هو السيف الذي يظل مصلتاً علي الرقاب في كل حين. وهذا الخوف يتسرب من قرص الشمس اللاهب في النهار وحلكة الظلام البارد في الليل، من عاصفة رملية خانقة إلي أطماع رجال يترصدون العابرين للفتك بهم ونهب ما يحملون من بضائع وأقوات، ومن غفلة الدليل والانحراف عن الاتجاه السليم إلي أسد جائع يجوس خفايا الصحراء بحثاً عن فريسة، ويكاد يقتنص الجواد الوحيد الذي اشتراه قائد القافلة ليساعده في التخفيف من مشاق تلك الرحلة. وربما كان شح الماء أخطر ما يواجهه أولئك المغامرون. يقول أحمد حسنين في ذلك:

.. وأشد ما يهولك في الصحراء أن ينزر الماء، وربما دار بخلدك في مثل هذه الحال أن تستبقي لنفسك ما لديك منه. ولكنك بدلاً من هذا لا تلبث أن تجدك حاملاً زجاجة الماء، وهي إذ ذاك أثمن ما تملك، تدور علي الرجال تسأل كلاً منهم: هل يريد جرعة؟ تسألهم غير مكترث، كأنما أفرخ في روعك أن الماء غزير فائض عن حاجتك، تسأل دون أن تفكر في سلامتك الشخصية.. .

روح الإيثار والتسامي وحب التضحية من أولي الخصال الحميدة في عالم الصحراء. في ذلك العراء المترامي الرائع الذي يربط بين الأرض والسماء بخيوط خفية من المحبة والصفاء والخشوع، سرعان ما ينسي الفرد نفسه ونوازعها الأنانية ويصبح جزءاً عضوياً متماسكاً مع المجموع: حياتهم حياته، وسعادتهم سعادته، وهلاكهم هلاكه. وفي ذلك الجو الاستثنائي العجيب تصفو النفس وتبرأ مطهرة من جميع الشرور والضغائن والشهوات، ويتحول الإنسان إلي كتلة نقية خالصة من الطيبة والإيمان وحب الآخرين والإخلاص لهم إلي حد التفاني، حتي كأن روح الإنسان تتسامي علي نوازعه الفردية الدنيا وتذوب في روح الكون الفسيح، وهي تسبح الخالق العظيم. ومن الأحداث المحزنة في هذه الرحلة أن أحد الرجال شرد في تلك الصحراء فاضطر أخوه أن يمضي للبحث عنه، ثم انقطعت أخبارهما وابتلعتهما القفار.

عودة للفهرس

من سبق الرحالة من المكتشفين و ما يميزه عليهم و ماذا قال عن الغولة

 

لم يسبق حسنين في جزء من هذه الرحلة إلا مستكشف ألماني مقدام - كما يصفه رحالتنا- اسمه رولفس سنة 1879، كان قد وصل إلي الكفرة ولم يخرج منها إلا بحياته، بعد أن خسر كل مدوناته ونتائج رحلته. وكان رحالتنا قد قام من قبل بالسفر إلي الكفرة، وبصحبته مسز روزيتا فوربس، مزوداً بمساعدة السيد ادريس السنوسي الذي قدم له ما يلزم القافلة، فوصل الكفرة في يناير من سنة 1921 ، لكن تلك التجربة الأولي لم تزده- كما يقول- إلا حباً في التوغل في أحشاء تلك الصحراء الممتدة وراءها. وكان هنالك اشاعات عن واحتين مجهولتين، لا يعرفهما كثير من أهل الكفرة إلا في أساطير الأولين وأخبارهم .

من هنا تأتي أهمية رحلة حسنين باشا ومكانته الريادية في اقتحام مجاهل الصحراء. وهذا الرحالة الشاب، خريج جامعة أكسفورد، يمتاز عن غيره من الرحالة في أنه يتمتع بطموح وهاج وروح علمية مفعمة برغبة البحث والمقارنة والاستكشاف. وفي سبيل هذا الهدف العلمي النبيل ينذر الرجل حياته للتضحية، ويلقيها في مهب الأهوال.

والجميل أن رحالتنا يتمتع، اضافة إلي خصاله العلمية، بموهبة أدبية وأسلوب شاعري رقيق يبدو جلياًفي كل فقرة من كتابه، كما يتمتع بحس الظرف والدعابة، وبخاصة في التقاط الحكايات الطريفة من شيوخ البادية ومحدثيها الكبار. وفي واحة سيوة، الواقعة علي بعد 300 كيلو متر جنوبي السلوم، يستمع إلي بعض الأهالي يحدثونه عن عاداتهم ويروي عنهم النادرة الاجتماعية الآتية، بعد أن يمهد لها بالحديث عن طبيعة الواحدة ويضعها في إطار أدبي رهيف، فيقول:

".. وسيوة أكبر الواحات وأجملها، تتفجر فيها عيون الماء العذب وتنمو فيها الفاكهة اللذيذة، وأخصها أجود أنواع البلح في العالم، وتقع العين فيها علي مناظر بديعة وعادات لأهاليها غريبة، ومن هذه العادات أن المرأة إذا فقدت بعلها، أمسكت عن الاستحمام أربعين يوماً، واحتجبت عن الأنظار، يقدم لها الطعام من ثغرة في الباب. فإذا انقضت هذه المدة ذهبت تستحم عند بئر من الآبار، فتنكب كل إنسان عن المرور في طريقها و سماها الناس غولة ، وتجنبوها لأنهم يعتقدون أنها تجلب النحس لكل من يقع نظره عليها في ذلك اليوم.. ."

عودة للفهرس

ماذا كان يحمل من معدات و ما الهدف من الرحلة هل هناك مهمة سرية؟

 

رجل مدني مرفه يقود قافلة ضخمة تضم أكثر من أربعين رجلاً من أهالي البادية، ومعه صناديق مغلقة علي ما فيها من كنوز وأموال - كما يتخيل المحرومون الحالمون- مثل هذا الرجل لابد أن يثير المخاوف والشكوك والأطماع، لاسيما أن صناديقه التي يضع فيها آلات التصوير والساعات وآلات المساحة والارصاد وموازين الحرارة والرطوبة والضغط الجوي وقياس الارتفاعات.. إلخ، فضلاً عن البنادق، بغية اخفائها بعيداً عن العيون المترصدة والنفوس المرتابة بكل غريب، هذا كله يزيد من حساسية الرجال وظنونهم وتساؤلاتهم التي لا تجد لها جواباً مقنعاً.

ماذا يعني اكتشاف واحة؟ ولماذا؟ وما هي الغاية الخفية التي تدفع رجلاً، ليس من أبناء البادية، إلي ذلك؟ أتكون هذه المغامرة مقدمة تمهيدية لغزو أجنبي قادم؟! وتظل التكهنات تدور في الخفاء، وأحياناً تكشف عن نفسها بصراحة وجرأة أقرب ما تكون إلي الاتهام: إن الرحالة درس في بلاد الانجليز، ويتكلم لغتهم وله بينهم أصدقاء، وهو صديق الملك فؤاد الأول، وليس من المعقول أن يتحمل كل هذه المشقة رجل نشأ في كنف المدينة المترف، إذا لم تكن هناك مهمة سرية خطيرة منوطة به..! وكان لجميع الشكوك ما يبررها، فالإنسان بطبعه ضد ما يجهل، كما أن عزلة أبناء البادية والذاكرة المثقلة بأشباح الغزاة والطامعين تجعل سوء الظن عصمة - كما يقول المثل- وهو يدعو للحذر والتحدي، بغية مجابهة الأخطار قبل وقوعها.

 

ولكن نلقي مزيداً من الضوء علي شخصية هذا الرحالة المغوار، وحرصه الشديد علي راحة رجاله أكثر من حرصه علي راحته الشخصية، فلنتأمل الجو الأخوي الذي جعله سائداً طوال الرحلة حتي كأنهم أسرة واحدة، دون أن يخل ذلك بواجب الاحترام وحسن القيادة. ويكفي، في هذا السياق، أن نقرأ الأسطر التالية بروية وامعان عندما يقول:

".. وكان من عادتي أن أضع خيمة مطوية علي ظهر جمل من جمال القافلة حتي يرقد عليها كل متعب من السير فيستريح، وكان يسميها أحمد الكلـــــClubـــــوب . واني لأذكر أن عبدالله التمسني ذات يوم ليعطيني نصيب من الخبز والبلح، فسأل أحمد: أين البيك؟ فقال له أحمد، وهو يغمز بعينيه: إن البك يتناول غداء اليوم في الكلـــــClubـــــوب. وقد يمتطي الإنسان بعيره فيغفو قليلاً علي ظهره، ولكنه يفضل المشي لأن سير الجمل بطيء يمكن صاحبه من ملازمة القافلة. وكثيراً ما يكون السير علي الأقدام أقل إنهاكاً للقوي من الركوب.. ."

وحسبنا أن نتأمل المكانة التي بلغها أحمد حسنين بفضل هذه الرحلة، فليس أمراً نافلاً أن يكتب أحمد شوقي، وهو شاعر الملك وأمير الشعراء، قصيدة مدح وإشادة حتي يطلق عليه في نهايتها ملك الصحاري في هيئة أسطورية كملوك الهنود الحمر، وذلك بقوله:

ولو جزتك الصحاري جئتنا ملكاً

من الملوك عليك الريش والودع

عودة للفهرس


ماقاله الرحالة فى كتاباته

الاعداد للرحلة و مراحلها (الرفيق قبل الطريق)

 

رست بي الباخرة في 21 ديسمبر 1922 في ميناء السلوم وهي ثغر صغير قريب من حدود مصر الغربية، وكان الترتيب أن نأخذ الجمال من السلوم ونذهب عن طريق الجغبوب إلي جالو، وهي المركز المهم لتجارة الصحراء، حيث يتم تنظيم كل شيء للبدء في رحلتنا إلي الجنوب.

ولمثل رحلتي هذه دائماً مراحل عدة، ينتابك في كل مرحلة منها شعور خاص، وتلقي فيها تجاريب تختلف عما تلقاه في غيرها. فإني ساعة وقفت في دار أبي في تلك الغرفة التي يشيع في أرجائها القاتمة عبق البخور، رأيت القيام بهذه الرحلة ضرباً من الأحلام يخلب لبي باحتمال تحقيقه، وأن اليقين منه كان بعيداً. أما في السلوم، فقد واجهتني الحقيقة الواقعة التي تستلزم جمع الزاد والمتاع وحزم كل شيء بحيث يصغر حجمه ويسهل تناوله، وجرد كل شيء للتحقق من وجوده، ثم الاتفاق مع أصحاب الإبل علي المرحلة الأولي من الرحلة.

وعند جالو تبدأ المرحلة الثالثة، حيث أتقدم القافلة واستقبل طريق الكفرة التي قطعتها من قبل ثم تنكرت لي معالمها، حتي إذا وصلت الكفرة بدأت مرحلتي الأخيرة ضارباً في أحشاء تلك الفيافي المجهولة التي لم تطأها قدماً مكتشف من قبل. وقد سبقني إلي السلوم عبدالله وأحمد ومعهما أمتعتي الضخمة، وكانا قد رتبا كل شيء يختص بسفرنا عن طريق الجغبوب، فأخذنا جميعاً في تحضير المتاع والزاد. ولا يفوتني أن أصف في هذه المناسبة ذينك المصريين اللذين صحباني في هذه الرحلة. كان عبدالله نوبياً من أسوان، متين البناء متناسب الأعضاء قوياً، له عينان صغيرتان غائرتان، يلوح فيهما الذكاء والشمم. وكان يبلغ من العمر أربعين سنة خرج منها بعلم وافٍ واستظهار للقرآن الكريم.

وكان أول لقائي به سنة 1914 حين كان في خدمة الأسرة الإدريسية بالقاهرة، وقد ملت إليه منذ رؤيتي له لما توسمت فيه من مخائل الذكاء والولاء. وكان من الأمانة بمكان، فاستودعته المؤن والذخائر. وكان يعمل للطواريء حساباً، فلا يخلو متاعه مما نحتاج إليه من سيور جلدية وإبر غليظة لرتق الأحذية، إلي أدوات أخري لإقامة المعوج وإصلاح المكسور من أعمدة الخيام. وكان دائماً علي استعداد لمواجهة كل ظرف من الظروف، فكان في وسعه أن يظهرني بدوياً من عرب مصر الرحل، أو تاجراً أو موظفاً كبيراً في الحكومة، كما حدث حين هبطنا ميدان الحياة الرسمية بالسودان. غير أن عبدالله كان فيه خاصية غريبة، هي أن النوم يغشاه بين الغروب وبعده بساعة أو اثنتين فيصعب كثيراً إيقاظه من غفوته. وكان يتغلب النعاس عليه أحياناً وهو جالس يتحدث فلا يتمالك نفسه من أن يهوم. وإني لأذكر أننا فرغنا من العشاء ذات مساء، وحلت ساعة تهويمه فانتهز هذه الفرصة رفيقي البدوي الأمين الزروالي، وكان قد انضم إلينا في جالو، وأراد مداعبته فأخذ جانباً من الزعتر ووضعه في كوب الشاي الذي كان أمامه.. وصحا عبدالله فتذوق كوبه وعرف الأمر فلم يقل شيئاً، وأعاد كوبه إلي موضعه. وبعد قليل من الزمن التفت إلي الزروالي وقال: أظن أنك تنتظر زيارة قادم، وإني لأسمعه مقبلاً . وما كاد الزروالي يقوم للتحقق مما سمع، حتي أبدل عبدالله كوبه بكوب الزروالي، وكان نصيب الأخير أن جرع تلك الكوب الحريفة، بينما عبدالله يهوم كعادته آمناً مطمئناً.

وقد تجلت في عبدالله غريزة الاتجار في أجلي مظاهرها، حين وصلنا في نهاية رحلتنا إلي بعض البلاد الآهلة، وقد أعوزنا الطعام فجمع كل ما فاض عن حاجتنا مما خلا من علب الصفيح وزجاجات الأدوية إلي بعض أسلحة الأمواس المستعملة، واستبدل بكل ذلك من السكان زبداً ولبناً وتوابل وجلوداً. وكان من الشمم وطيبة القلب علي شيء كثير. وقد تألم عند عرضي شريط رحلتي أثناء إلقائي محاضرة شرفها جلالة الملك فؤاد في دار الأوبرا بالقاهرة، فإن عبدالله حين رأي نفسه في كثير من الصور في ثوب مهلهل آلمه أن يظهر في تلك الحال الزرية أمامه ملكه، وسألني بعد ذلك إن كان في المقدور أن أغير تلك الصور بحيث يظهر فيها أحسن هنداماً وأسلم ثوباً.

أما أحمد فكان كذلك نوبياً من أسوان، منسرح القامة صلب القناة، وكان خادمي الخاص وطاهيّ. وقد اختار حرفة الطهي علي مبلغ تعلمه، لأنه أراد أن يكون طليقاً. وقد أبدي أن ينزل علي إرادة أبيه حين اختار له حياة دينية، لأنه لم يأنس إلي ما في تلك الحياة من بساطة وزهد وتقشف. وكان طروباً أبداً محبوباً من جميع أفراد القافلة، رغم صبه اللعنات والشتائم من وقت لآخر. ولو أن غيره فاه بكلمة واحدة من ألفاظ السباب التي يفوه بها، لكانت كافية لإراقة الدماء بين رجال القافلة، ولكنهم اعتادوا ذلك منه وكانوا يتفكهون به. وكان من عادته إذا انتهي من الطهي أن يجلس إلي الأعراب ويهزأ من مبلغ معرفتهم بقواعد الدين، ويظهر التفوق عليهم بإنشاء مقاطيع من شعر الزهد، ويحسن اختيار أشعار الغزل وروايتها وطائفة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

وكان أحمد هذا مخلصاً لي متفانياً في خدمتي، لم يكن يفوته أن يقدم لي كوباً من الشاي في أحرج الظروف وأقلها ملاءمة لذلك. وأني لأذكر أنا سرنا ليلة كاملة ثم حططنا الرحال، وكان يشكو ألماً في قدمه، فقلت له اعتباطاً حين أخذنا في نصب الخيام: إني لم أكن في حاجة إلي الفطور أو الشاي حتي أصحو من نومي، وسمحت له بالنوم فتركني، وما كدت أفرغ من إعداد غطائي حتي جاءني بكوب من الشاي يتصاعد منه البخار. وكان علي سبابه ولعنه رفقاءه البدو لا يتواني عن الاهتمام بتخفيف آلام من يمرض منهم، فقد أخذ عني بالتدريج فهم استعمال الأدوية التي معي، وكان كلما أشكل عليه معرفة دواء يجيئني بزجاجته للتحقق مما بها.

عودة للفهرس


زاد اهل الصحراء (الشاي والبلح والماء)

 

إن ما يحتاج إليه الإنسان في قطع الصحراء بسيط، والأشياء التي يحملها مجتازو الصحراء معروفة، تكون متماثلة في كل حالة. فغذاء الصحراء هو الدقيق والأرز والسكر والشاي.. وسكان الصحراء يحبون اللحم، ولكنه لا يمكن حمله بطبيعة الحال، فلابد للإنسان من الصيد إذا أراد أو الاستغناء عنه.

أما الشاي فهو شراب أهل صحراء ليبيا وهم يفضلونه علي القهوة لسببين، أولهما ديني والثاني عملي. فقد حرم السيد ابن علي السنوسي علي أتباعه عيش الترف وأمره نافذ لأنه مؤسس الطائفة السنوسية المهيمنة علي أمور البلاد التي أزمعت اختراقها. وقد تناولت أوامره تحريم الدخان والقهوة، ولكنها لم تتناول الشاي لأمر ما. ولهذا تجد كل أتباعه يحبون الشاي إذا صحت المقارنة بين ذلك السائل العكر المر الذي يبعث النشاط في النفوس، نفوس الأعراب أثناء السير، وينعشها آخر النهار، وبين ذلك الشراب الذهبي الشهي ذي الرائحة الزكية الذي يوسع حافات الموائد في بلاد الحضارة. والسبب الثاني الذي يجعل أهل الصحراء يؤثرون الشاي علي القهوة إنه منشط علي العمل. وهم يشربونه عقب كل طعام ويختتمون به رحلة اليوم.

والبلح من أهم الأطعمة في الصحراء إن لم يكن أهمها جميعاً فإنه غذاء الرجال والجمال إذا نفد الزاد أو ضاق الوقت عن طهي شيء، وليس بلح الصحراء تلك الفاكهة الحلوة الشهية التي يتلذذ بأكلها أهل الغرب علي موائدهم ويحملونها معهم في سياحاتهم القصيرة، فإن البلح الذي يحمله قاطع الصحراء يجب أن يكون قليل مادة السكر لأن السكر يسبب العطش ولابد من الاقتصاد في الماء إذ الآبار علي مسافة أيام من بعضها من بعض. وقد أخذت معي بعض الأطعمة المحفوظة في العلب مثل لحم البقر والخضر والفاكهة، ولكن هذه العلب ثقيلة والإكثار منها يتطلب زيادة في عدد جمال القافلة. وكان معي بعض اللبن ولكني لم أشرب القهوة إلا قليلاً وقدمته هدايا إلي من صادفنا أثناء الطريق. وكان معي كذلك قليل من زجاجات أقراص اللبن المركز، وقد نفعتنا كثيراً عند نقص مقدار الطعام. ولكن البدو لم يميلوا إلي هذه الأقراص، لأنها كما كانوا يقولون تشبعهم بدون إمتاعهم بلذة التذوق.

هذا ما كنا نحمله من الأغذية مضافاً إليه الملح والتوابل وأخصها الفلفل لعمل العصيدة. ولا تخلو هذه الأغذية من التنويع القليل، ولكن التنويع في المأكل شيء يجب الاهتمام به في الصحراء حيث تنقل المؤن دواب تعيش في الغالب علي أكثر ما تحمله. ولم يكن معي طعام خاص شهي أستعين بلذته علي إساغة الأرز والخبز والبلح والشاي، لأن من يجرب السفر في الصحراء ويتعلم دروسه يدرك أنه يجب أن لا يختص نفسه بشيء دون رجال القافلة، فلا يحمل من لذائذ المأكولات ما لا يكفيهم جميعاً، إذ في الصحراء تنمحي الفوارق كلها فلا تمييز بين رفيع ووضيع. غير أن التبغ كان الشيء الوحيد الذي ميزت به نفسي عن بقية الرجال.. ولكن هذا لم يكن في الواقع خرقاً للقاعدة، إذ لم يكن بين رجال القافلة من يدخن إلا شخص واحد شاركني لذة التدخين التي نعمت بها أثناء الرحلة، لكثرة ما حملت معي من السجاير المصرية والطباق.

ويجيء الماء بعد هذا وهو المعضلة الدائمة في الصحراء. فقد رأينا رجالاً يمسكون عن الطعام أياماً عديدة ويصومون إلي آجال لا يصدقها العقل، إما لحاجة قضت بذلك أو علي سبيل التجربة، أما إذا أمسك رجل عن الماء في الصحراء أربعة أيام فإنه يكون قد أتي بمعجزة. والصحراء لم تُسم صحراء إلا لخلوها من الماء، والماء أهم ما يتحتم علي مجتازها التفكير فيه والعناية به. ولقد حملنا الماء علي طريقتين، فأخذنا حاجتنا منه في خمس وعشرين قربة من جلد الغنم، علي أن هذه القرب سهل انفجارها إذا اصطدم جملان ليلاً في طريق صخرية. ولذلك أودعنا الماء الذي ربما مست إليه الحاجة في فناطيس مستطيلة من الصفيح مدلالة علي جوانب الجمال. وكان معنا ثمانية فناطيس، يسع الواحد منها ما يملأ ثلاث قرب، فكان كل ما معنا من الماء يكفي جميع أفراد القافلة في أطول المراحل بين بئر وأخري. وقد قصرنا وضع الماء الاحتياطي علي الفناطيس، وإن كانت أسلم عاقبة من القرب، لأن هذه لا تشغل حيزاً كبيراً إذا خلت، فقد يكفي جمل واحد لحمل الخمسة والعشرين قربة الخالية، بينا لا تزيد حمولة الجمل الواحد عن أربعة فناطيس، سواء أكانت ملأي أم خالية، ولم يكن معنا جمال نغني عنها.

عودة للفهرس


 

الطريق الى سيوة و الجغبوب و( الفال بصيد الغزال)

 

انتهيت من وضع خطتي في السلوم للانحدار جنوباً إلي سيوة ثم الجغبوب، ولكن حادثة وقعت لي قبل اليوم المحدد للسفر بيومين شغلت بالي. وذلك أني كنت جالساً ذات مساء في غرفتي بمنزل استراحة الحكومة اشتغل بفحص أجهزتي العلمية فإذا بطارق علي الباب.. وحرت في التكهن بمن يريدني في تلك الساعة، ولكني تقدمت إلي الباب وفتحته قليلاً فرأيت بدوياً لا أعرفه ملتحفاً بجرده فأقفلت الباب في وجهه وسألته: من أنت؟ فقال: صديق. ولكني لم أطمئن إلي ذلك، فسألته عن اسمه وعما يريد، فأجابني من وراء الباب أنا صديق أريد أن أسر إليك شيئاً لابد من إخبارك به .

ففتحت الباب وسألته الخبر فدخل وقال بلهجة المستفسر: أظنك ستسير إلي الجغبوب من الدرب الطوالي ، فأومأت برأسي أن نعم. فقال وفي لهجته شدة: لا تذهب، فقلت: ولم هذا؟ فأجاب: إن البك غني يحمل معه ثروة طائلة، والأعراب أهل شره ونهم، والدائر علي الألسنة أن معك صناديق مملوءة ذهباً.

قال لي هذا بينما ينطق في عينيه اعتقاده بصحة هذه الاشاعة، وإن ادعي غير ذلك. ثم ثني قائلاً: لقد اتفق الجمالون مع أصدقاء لهم في الطريق علي الكمون لك ونهب ما معك، وقد تضيع مالك وتفقد حياتك إذا سلكت تلك الطريق. فأجبته: إن في وسع كل إنسان أن يدافع عن نفسه وعن ماله. فقال: ذلك محتمل إن كان معك العدد الكافي من الرجال، ولم يكن معي ذلك العدد الكافي. فتطرقت في الحديث معه إلي الاستفسار عن صحة هذا الخبر، فقص علي القصة وكان صادقاً، وزاد يقيني في صحة أخباره أنه كان قريباً لرجل أديت له خدمة، حين أوفدت في بعثتي الأولي إلي السنوسيين.

وشكرته علي اهتمامه بتحذيري، واختفي الرجل في ظلام الليل. فخلوت بنفسي أعرض عليها التفكير في الخروج من ذلك المأزق الحرج. وأهل الصحراء سريعون إلي التكهن بمقاصدك إن أمكنهم ذلك، فإن عجزوا ظنوا الظنون في كل ما تفعل أو تريد أن تفعل، وكان أكثر متاعنا في صناديق، والأعراب لا تفهم من الصناديق إلا أنها تحوي كنوزاً. وليس عجيباً منهم وقد ظنوا مدفعاً تلك العلبة التي جئت بها وفيها ثلاث بنادق، أن يحسبوا آلات التصوير والأجهزة الفنية التي حملتها معي نقوداً ذهبية أو سفاتج من الأوراق المالية. وليس بعيداً أن يكون الرجال الذين أكريت جمالهم قد ظنوا أني مخترق الصحراء بهذه الثروة الطائلة لسبب خاف عنهم، ففكروا في سرقتي. ولست أكتم القاريء أني لم أرتح إلي هذا الخبر، فإن استهلال رحلة بقتال لا يدعو إلي التفاؤل أو يشرح النفس، مهما أولينا فيه من فوز خروجنا منه سالمين. ولذلك فضلت اجتناب هذه العقبة عن التعرض لها.

وأصبح الصباح فاستغنيت عن أصحاب الجمال الذين انكشف لي سر مؤامرتهم، واعتضت عنهم بآخرين يوصلونني إلي واحة سيوة. واستبدلت الطريق المستقيمة إلي الجغبوب رؤوس زواياه. وقد أطال هذا التغيير مسافة القسم الأول من الرحلة، ولكن الزمن والمسافة هينان في سبيل سلامة الوصول. وللسفر بطريقة سيوة ميزات كثيرة، لأن هذه الطريق واقعة في الأملاك المصرية لا في تلك الأصقاع التي تسكنها القبائل التي ينتمي إليها الجمالون الخونة، ولأنها طريق مطروقة لا يجسر قطاع الطرق أن يقدموا علي اغتيال المارة فيها بدون التعرض للخطر. وقد حال اسراعنا في الرحيل، بعد تغيير خطة السفر، دون تفكير المتآمرين علينا في إعداد خطة جديدة لنهبنا، إن كانوا قد فكروا في ذلك. وهكذا ظننت السلامة في هذا التغيير والتبديل ولم أكن مخطئاً في هذا الظن.

وبدأت القافلة سيرها في أول يناير، وبعد قيامها بثلاثة أيام تفضل الملازم باثر فاستصحبني في سيارة للحاق بها عند بئر دجنيش، علي بعد نحو ستة وثلاثين ميلاً من السلوم. ثم ودعت ذلك الضابط الرقيق، وأخذت مكاني بين رجال القافلة. وكانت المسافة إلي سيوة ستة أيام، قضينا وقتاً منها في إخفاء صناديقنا وعلبنا بين طيات حوائجنا، بحيث ظهر مجموعها كأنه أثاث عادي من أثاث البدو.

ولم يقع لنا في بحر هذه الستة أيام أمر ذو بال اللهم إلا حادث. كان أول ثلاثة بعثت في نفوسنا الفأل الحسن بنجاح الرحلة، وذلك أني رأيت في عصر اليوم الخامس غزالاً يرعي علي مقربة من طريقنا فتعقبته يحتثني الميل إلي تذوق اللحم الطري وما كدت أتقدم له حتي سمعت صراخاً وعويلاً خلفي قصد بهما رجال القافلة تثبيط همتي في صيده. ولم أفهم باديء الأمر ما دعاهم إلي منعي من صيد ذلك الغزال، مع ما أعرفه في البدوي من حب اللحوم وظننت أنهم خافوا علي البعد عنهم وتعطيل سير القافلة، فلم أحفل بصراخهم وتقدمت إلي الغزال وبعد أن طاردته قليلاً أطلقت النار عليه فأصبته في مقتل.

وما كدت ألحق بالقافلة حاملاً طريدتي حتي نالتني الدهشة مرة أخي، فقد تقدم الرجال إلي يلوحون بأيديهم ويرسلون صراخاً يمتزج فيه الفرح بالتهاني، ولم ينقض عجبي من وقوفهم دون صيدي الغزال وترحيبهم بي بعد صيده حتي سمعت منهم تفسير ذلك، ففهمت أن البدو يعدون أول طلقة من رئيس القافلة علي طريدة، بعد البدء في سير القافلة، فاصلة في حظ الرحلة من النجاح أو الخيبة. فإن أخطأ الرامي أصاب القافلة مُصيبة قبل انتهاء الرحلة، وإن أصاب بََسمَ الحظ لها وكتب لها النجاح. ولذلك أشفق الأعراب من رؤيتي أقطع في حظ القافلة بهذه السرعة. ولو كنت أدري هذه النظرية لأبقيت الطلقة الأولي حتي وصلنا الفاشر، بعد ذلك بستة أشهر.

وأقمنا في سيوة ثلاثة أيام، قضيناها في تأجير جمال أخري للمرحلة إلي الجغبوب، وعمل بعض الترتيبات النهائية. وسيوة آخر مركز يتصل بالعالم المتمدن الذي أخلفه ورائي، فعندها تنتهي أعمال البريد والاشارات البرقية، ولا يوجد بعد سيوة شيء يباع إلا محصولات الصحراء والقليل من الأرز والقماش، وهذا غالي الثمن إن فُرض وجوده. وقد أكرم وفادتي، وقام بمساعدتي في بحر الثلاثة أيام، حضرة المأمور أحمد أفندي كامل والموظفون والملازم لولر قومندان قوة مصلحة أقسام مصلحة الحدود المرابطة هناك. وسيوة أكبر الواحات وأجملها، تتفجر فيها عيون الماء العذب وتنمو فيها الفاكهة اللذيذة، وأخصها أجود أنواع البلح في العالم. وتقع العين فيها علي مناظر بديعة وعادات لأهاليها غريبة، ومن هذه العادات أن المرأة إذا فقدت بعلها أمسكت عن الاستحمام أربعين يوماً، واحتجبت عن الأنظار، يقدم لها الطعام من ثغرة الباب. فإذا انقضت هذه المدة ذهبت تستحم عند بئر من الآبار، فتنكب كل إنسان عن المرور في طريقها وسماها الناس غولة وتجنبوها لأنهم يعتقدون أنها تجلب النحس لكل من يقع نظره عليها في ذلك اليوم.

وفي سيوة تكدس أكوام البلح في سوقه الخاصة التي يطلق عليها اسم المسطاح . وهذه الأكوام مقسمة حسب أنواع البلح من جيد ورديء، ولا يقوم بحراستها أحد، ولكن الأيدي الغريبة لا تمتد إليها، ولا تخلطها قصد الانتفاع. علي أن لكل إنسان أن يدخل هذه السوق، وينال كفايته من أجود أنواع البلح بدون أن يدفع مليماً واحداً، ولكنه ليس في حل من أن يحمل معه شيئاً. وفي سيوة مقام لأحد الأولياء يودع الناس حوله أشياءهم ليأمنوا عليها، فإذا فكر أحد في السفر أخذ متاعه الثمين وتركه بالقرب من هذا المقام، فلا تمتد إليه يد إنسان، ولا يفكر أحد في التعدي علي الأشياء المودعة عند هذا المقام مهما غلا ثمنها، لأن الاعتقاد الساري الذي لا يتزعزع هو أن الإنسان الذي يمد يده، عند هذا المقام إلي شيءلا يملكه، يبتلي بالنحس وسوء الطالع طول أيام حياته.

وعند تأهبي للقيام من سيوة تضاعف عدد رفقائي، فقد أضفت من السلوم إلي عبدالله وأحمد رجلاً من قبيلة المنفي اسمه حمد، وكان أشد رجال القافلة إقبالاً علي العمل وأصبرهم علي التعب، فلا أذكر أني رأيته مرة متعباً. وكان مشغوفاً بالجمال خبيراً بأحوالها وشؤونها، فعهدت إليه ببعيري. وأما رابع الرجال فكان إسماعيل، وهوشاب من سيوة يظهر عليه الضعف ولكنه كان آخر من يتعب من السير ويمتطي ناقة. وقد عهدت إليه بالجواد الذي حصلت عليه في جالو واختصصته بمرافقتي في تجوالي للبحث عن بعض عينات من طبقات الأرض، أو عند الاشتغال ببعض الأبحاث الفنية. فإن نشأته في واحة مصرية، لها اتصال بحياة المدنية بواسطة البريد والتلغراف، لم تخلق فيه تلك الريبة التي اختص بها أهل الصحراء، وجعلتهم يؤولون أقل عمل يأتيه الغريب تأويلات غريبة بعيدة عن الحقيقة. فإن من البدو من كان يظن أني أقتطع الأحجار لأنها تحوي ذهباً، أو أني أرتاد تلك الأصقاع لأمهد سبيل غزوها فيما بعد. وقد أحببت إسماعيل لأنه لم يكن كذلك، ولأنه كان يطيعني طاعة لا يتسرب إليها سوء الظن بما أفعل.

وتركنا سيوةبعد استبدال جمالنا في اليوم الرابع عشر، وانقطعت آخر حلقة من حلقات اتصالنا بالعالم الخارجي وما كدنا نقف بعد المرحلة الأولي حتي خلعت ذلك الثوب البالي من الخاكي، ولبست ثياب البدو وظننتني رجلاً من رجال الصحراء. وكان تأثير هذا التغيير سريعاً في رجالي فقد تعودت منهم قبل ذلك أن يقربوني مرتبكين حياري، ولكني ساعة تزييت بزيهم تقدموا إلي مقبلين علي، وشدوا علي يدي علي طريقة البدو وقالوا: الآن صرت منا.

ووقعت لنا الحادثة الثانية التي تفاءلنا بها خيراً بعد تركنا سيوة ببضعة أميال، فقد وجدنا بلحاً في طريقنا كان قد تناثر من بائع أثناء ذهابه إلي السوق. والبلح المنثور في طريق القافلة فأل حسن بنجاح الرحلة، وقد يحدث أحياناً أن يتعمد أصدقاء البدوي نثر البلح في طريق قافلته، قبل بدئها في السير حتي يعثر بها في سبيله. وقد زاد هذا الفأل الأمل في نجاح الرحلة بعد حادثة الغزال، ولكن الحادثة الأخيرة كانت أبعث الحوادث علي حسن التفاؤل. وذلك أني كنت أرسلت رجلين من رجالي يحملان خطاباً إلي السيد إدريس في الجغبوب أعلمه فيه بقرب وصولي، فإن العادة في الصحراء ألا يفاجأ الإنسان صديقاً أو ذا حيثية بدون سابق إعلان بمجيئه، لأن هذا الإعلان يمكن كلاهما من ارتداء الملابس التي يليق في مثلها لقاء أهل الفضل والوقار.

عودة للفهرس

 


كرم اهل الصحراء و قصة الدواء

لقد أظهر الزعماء السنوسيون من دلائل كرمهم شيئاً كثيراً، وجروا علي سنة البدو في إظهار ذلك تبعاً لمكانة رب البيت والضيف. ووفقاً للظروف ومناسباتها، فإن المسافر إذا حل بواحة أو بلدة في الصحراء، كان معه رجال قافلته وما يحتاج إليه من ضرورات العيش. ولا ينزل ذلك المسافر في فندق أو في دار صديق، وإنما يتخذ له مقاماً منفرداً فينصب خيامه ويقيم فيها، أو يسكن في دار توضع تحت تصرفه، كما حدث لي في الجغبوب وجالو والكفرة. فإذا حل ضيف المدينة أظهر كبراؤها كرم الضيافة نحوه، فدعوه إلي تناول الغداء أو العشاء في منازلهم، أو أرسلوا إليه الطعام بخيامه أو داره. وسأفيض في وصف كرم البدو إذا دعوا أحداً إلي منازلهم، عند التكلم عن إقامتي في جالو، فقد دعاني في هذه المدينة زهاء الخمسة عشر وجيهاً من وجوهها. أما في الجغبوب، فقد أبدوا لي ذلك الكرم بإرسال ألوان الطعام إلي داري. وقد تمتد ضيافة البدوي لضيفه ثلاثة أيام أو سبعاً، تبعاً لمنزلة الرجلين.

وقد حدث بعد وصولي الجغبوب ببضعة أيام أن تفضل فتيان في الثالثة عشرة والخامسة عشرة من عمرهما، وهما سيدي إبراهيم وسيدي محيي الدين، وهما أصغر أبناء السيد أحمد المقيم الآن بالحجاز والذي كان الوصي علي السيد إدريس، فأظهر نحوي من دلائل الكرم ما ترك لهما في خاطري أجمل الذكري. فقد وصل إلي داري بدوي ومعه عبدان ينوءان تحت عبء الأطعمة، ونثر أمامي صحاف الطعام المتنوع، فوجدتني مضطراً إلي تذوق ما لا يقل عن عشرين صنفاً. وجلس ممثل ضائفي بأدب واحتشام لا يمد يده إلي شيء، بينما أصبت قليلاً من كل صفحة وظل يشرف علي تقديم ما يجعلني راضياً، ويسامرني أثناء تناولي الطعام. وهذا البدوي من قبيلة البراعصة التي اشتهر رجالها بأنهم الطبقة الراقية لأهل الصحراء، وامتازوا بطول القامة وجمال الخلقة وعزة النفس والشجاعة، فإن البراعصي لا يحجم عن مقابلة الإهانة بالسيف، ولو انفرد بين رجال قبيلة بأسرها.

جلست أتناول الطعام ترعاني عين هذا البدوي، ويخدمني العبدان. ولست أدري، لكثرة ما قدم، إن كان في إمكاني أن أذكر الألوان الشهية التي ملأت الخوان، ولكني أذكر أن ذلك لم يخل من جميع أصناف اللحم والخضر والفطائر. واللحم منأهم أنواع طعام البدويين وأخصه لحم الخراف، وهو قوام حياة البدوي إذا لم يكن مسافراً. ولا تكمل ضيافة البدوي لنزيله إلا بتقديم اللحوم التي أحضرت خصيصاً له. فإذا أراد البدوي أن يدعو أحد لتناول الطعام نحر له شاة، والعادة ألا يجهز شيئاً أو يذبح ذبيحاً، حتي يحضر الضيف فيري بنفسه أن كل شيء قد أعد له وحده. وربما طلب رب الدار من ضيفه سكيناً يذبح بها الشاة، حتي يؤكد له أنه يقوم نحوه بكل أنواع الإكرام.

وإنما يبين كرم البدوي في كثرة ألوان الأطعمة التي يقدمها لضيفه، فإن الطعام في الصحراء أهم مظاهر الكرم، وهو في تلك الأصقاع الساذجة كل ما يتحدث به الناس.

عودة للفهرس

 

الشرق (العرب) و الغرب(اوربا) و اعتقاد كلاهما في الاخر

ولم تخل إقامتي في الجغبوب من حادثتين أبانتا لي أن الشرق والغرب، علي كثرة ما بينهما في الاختلاف، متفقان اتفاقاً ظريفاً في بعض الميول. وأولي هاتين الحادثتين فكاهة، والثانية لا تخلو من عاطفة تشوبها فكاهة. كنت قد أمرت رجالي ألا يردوا أحداً يقصدني في طلب دواء، فجاءني أحد الاخوان السنوسيين يطلب دواء لسعاله، فأعطيته زجاجة من الشراب الخاص بمداواة السعال. وجاءني بعد يومين قائلاً إن الجرعات الأولي التي تناولها أفادته فائدة عظيمة دفعته إلي إفراغ ما في الزجاجة، وسألني أن أعطيه زجاجة أخري ثم انصرف. وكان عبدالله حاضراً فالتفت إليَّ وقال هازئاً: لا أعجب إذا طلب سيدي الاخواني زجاجة أخري، فإن الشراب شهي لذيذ وانه ليشرب متلذذاً بطعمه لا متداوياً . وأظن أن عبدالله كان مصيباً في تعبيره، فطالما لاحظت أثناء إقامتي بإنجلترا أن الأطفال يؤكدون لأبائهم فتك السعال بهم وإن برئوا منه، وإنما يدفعهم إلي ذلك حلاوة الدواء وطيب مذاقه. وقد اعتاد رجالي أن يفخروا أمام البدو بأني أحمل في حوائجي الدواء لكل علة، فجاءني فتي تحت تأثير تابعي أحمد يسألني شيئاً يداوي به جارية من السهو والنسيان. فكان جوابي علي ذلك أني رأيت، بعد تجاربي العديدة في كثير من المملك، أن منع الخدم من النسيان لا يقل صعوبة عن منع الماء من الغوص في الرمال.

أما الحادثة الثانية فكان بطلاها رجلين يختلفان كل الاختلاف: جاءني عبد أحد الاخوان يستشيرني في شيء كلفه سيده بعرضه علي، لأنه لا يجمل به أن يسره إلي شخصياً، فإن آداب البدو تقضي ألا يذكر إنسان زوجه أمام غيره، بل ألا يذكر سيده لا يعرفها المتحادثان. أما العبد فيمكنه أن يقول ما تأبي كرامة السيد التصريح به. جاءني ذلك الخادم فقال: إن زوج سيدي عاقر، وإن ذلك يؤلم بعلها كثيراً، وان سيده واثق أن إزالة ذلك العقم لابد في استعمال الأدوية التي أحملها من عجائب علم الغرب ، وما كاد يتم حديثه حتي عادت بي الذكري إلي أيامي الأخيرة في أكسفور، فذكرت خادماً في الجامعة كان لطيف العشرة ولكنه شديد الحياء.

جاءني ذلك الخادم ذات يوم وكنت أهيئ أسباب عودتي إلي مصر، وبعد أن استجمع كل جرأته للجهر بما يضمر، سألني هذا السؤال: إذا سمحت يا سيدي أن أسأل فضلك، أفضيت إليك بحاجة لي. إن زوجي عاقر، والطبيب عاجز عن مداواتها وليس لديه ما يقترحه، فإذا عدت يا سيدي إلي بلدك الذي سمعت أنه يحوي طلاسم عجيبة تؤثر في كل شيء، فتنازل بالبحث لي عن طلسم للحبل وأرسله، عسي أن يرزقنا الله ولداً. ولست أكتمك يا سيدي أني لا أعتقد بالسحر، ولكن الحيل ضاقت بي في سبيل هذا الأمر . ولم يسعني وقد رأيت انشغال باله وكشفه لي عن بنات صدره إلا أن أجيبه بجد وعطف أني سأفعل ما أنا قادر عليه. ولم تدعني الحاجة بعد ذلك إلي البحث عن طلبته، لأنه مات قبل أن أعود إلي أكسفورد، تاركاً وراءه ذكري طيبة بين جميع طلبة كلية بليول .

ذكرت كل هذا وعبد ذلك الاخواني منتظر، ولكني لم يسعني أن أبطيء في إعطائه ما طلب إلي سيده. وأتيحت لي فكرة للخروج من هذا المأزق، فأعطيت الخادم نصف زجاجة من أقراص اللبن المركز، وأمرته أن يجعل السيدة تتناول ثلاث حبات منها حتي تنفرج الأزمة. وانصرف الخادم، ففكرت في المقابلة الغريبة بين هاتين الحادثتين. فهناك في أكسفورد أهاب علم الغرب بقوة الشرق الروحية، وقد أعوزت تجاريبه السبل في إيجاد دواء للحمل، وهنا في الجغبوب طلب الشرق مساعدة العلم الغربي، بعد أن ضاقت به الحيل في العلوم الروحانية. وهكذا يظل الشرق والغرب معتقدين في قوة المجهول العجيبة.

عودة للفهرس

الجغبوب و حيلة لشراء الابل من قافلة زوية

 

وطالت علي الإقامة في الجغبوب، ولكن عيشتي الهادئة وتمتعي بلطف البدو وبشاشتهم لم ينسياني التفكير في أمر الإبل فبعثت الرسل إلي جميع النواحي المجاورة في طلبها، وزدت مبلغ الأجر لأصحابها ولكني لم أظفر بطائل. وسألت السيد حسيناً مساعدته ولكنه أقر لي بعجزه عن عمل أي خدمة لي. وأرسلت رسولاً إلي سيده يحمل إشارة برقية إلي السيد إدريس في مصر أعلمه فيه بحيرتي وأسألته المساعدة، فجاءني الرد منه بأسرع مما كنت أنتظر طالباً إلي السيد حسين أن يقدم لي ما في طوقه من المساعدة، ولكن السبل كانت مسدودة. وأخيراً، وقد سدت منافذ الأمل، وصلت قافلة من قبيلة زوي كانت قد تركت جالو إلي سيوة في طلب البلح، فأردت تأجير إبل القافلة. ولكن أصحابها لم يرغبوا في العودة بدون البلح الذي قصدوا استجلابه، غير أني وجدت في آخر أمر طريقة لحملهم علي النزول عن جمالهم، فأعلمتهم بواسطة سيدي حسين أن الأوامر صدرت من الحكومة المصرية بمنع رجال قبيلة زوي من الدخول في الأراضي المصرية حتي ينحسم النزاع بينهم وبين أولاد علي المقيمين في مصر، ذلك النزاع الذي نشأ عن ثأر متحكم بين رجال القبيلتين منذ بضع سنين.

ورأي رجال القافلة أن التقدم إلي مصر غير ميسور خوف العقاب، فلم يبق أمامهم وقد حُجزوا في الجغبوب إلا العودة من حيث أتوا فكان ذلك ما قصدت. وساعدني علي رضائهم بتأجير إبلهم إخبارهم بأوامر الحكومة المصرية، وكتاب السيد إدريس واستمالة السيد حسين لهم، ووعدي بإعطاء أجر باهظ جروني إليه لاحتياجي إلي جمالهم. وانتهت تلك الأيام السعيدة التي قضيتها تحت ظلال القبة البيضاء.

وانقضت كذلك أيام الهدوء والتفكير والتأمل في ظل القبة البيضاء وأيام القلق للرغبة في السفر والبحث عن ممهداته فأدرت وجهي إلي الغرب قاصداً جالو في 22 فبراير بعد أن أقمت في الجغبوب 34 يوماً كاملة.

عودة للفهرس


زوابع الرمال في طريق جالو و قسوة الصحراء و جَمالها الأخاذ

تركت الجغبوب في يوم من خير الأيام التي جرت عادة البدو أن يتفاءلوا بها كان ذلك يوماً عاصفاً تسفي فيه الريح الرمال، والعرب يقولون إن القافلة التي تبدأ رحلة في عاصفة يكون نصيبها التوفيق وتصيب حظاً طيباً. وأكبر ظني أن العرب ابتدعوا هذه الفكرة قديماً للرضا بما هم واقعون فيه كل يوم، والنزول علي ما تضطرهم إليه طبيعة الصحراء. وإلا فإن البدوي في هذا يكون كالمصري أو السوداني إذا قال إن السفر محبوب في يوم مشمس، أو الايقوسي إذا تمني اليوم الممطر لسفره، إذ زوابع الرمال في الصحراء أمر عادي قد يلقاه مجتازها في أي مكان وآونة، علي أنها تجربة شاقة ومحنة قاسية، يعاني الإنسان هولاً شديداً في احتمالها. يصبح والسماء صافية والجو خال مما ينذر بعاصفة أو يشعر بريح، وتبسم الصحراء لنا ونحن نهم بالرحيل فتتحرك القافلة فرحة مبتهجة وتسير فرحة طروبة. وما هو إلا قليل زمن حتي يهب نسيم بليل لا يعرف مأتاه، يمضي همساً فوق الرمال ثم يشتد دون أن نشعر بذلك، وإلي هذا الحد لا نلقي من هبوبه ما يضايقنا.

ثم ينظر الإنسان إلي وجه الصحراء فإذا سطح الأرض قد تغير تغيراً غريباً، وإذا ذرات الرمال ترتفع قليلاً وتنبجس وتدور كأنها بخار يتصاعد من ثقوب لا عد لها في أنابيب مدت تحت ذلك السطح. وتزيد ثورة الرمال شيئاً فشيئاً كلما ازدادت الريح قوة، حتي يخيل للإنسان أن سطح الصحراء كله يرتفع إطاعة لقوة دافعة رافعة تحته. ويتطاير الحصي ويتناثر فيصيب قصب الأرجل والركب والأفخاذ، ويتصاعد رشاش حبات الرمال الراقصة علي الأجسام حتي يلطم الوجه ويدوم فوق الرؤوس. ثم تغيم السماء فلا يري البصر إلا أشباح الجمال القريبة منه، وتثور الطبيعة فكأن في الجو قوي خفية تصب العذاب لطماً وقذفاً ولدغاً.

خير لمن تدهمه الزوبعة أن تهب من ورائه، لأن لطم الرمال وجهه عذاب أليم، وفوق هذا فليس في وسعه أن يبقي مفتوح العينين، ولا هو يجسر أن يغمضهما، فلئن كان لدغ حبات الرمال شراً وبلاء، ففقد الطريق شر أعظم وبلاء كبير. ولحسن الحظ، إن الريح تهب في عصفات متلاحقة تتراوح بين الثلاث والأربع، وتعقب كل طائفة ثوان قليلة تسكن فيها الريح فتريح النفوس. ذلك أن الانسان عند عصفها يدير وجهه ويتقي الرمال بطرف كوفيته، ويكاد يمسك عن التنفس حتي تجيء فترة السكون، فيكشف عن وجهه ويلقي نظرة سريعة يتبين الطريق، ويعجل بالتأهب للهبة الثانية. وكأن هنالك شيطاناً هائلاً عاتياً ينفخ تلك العصفات والهبات الداوية في الرمال، فيسفيها فوق رؤوس المسافرين، ويدوي في الفضاء صوت يصم الآذان، وكأن هذا الصوت من يد ذلك الشيطان تضرب بأصابع قوية خشنة ضربات متناسقة علي أوتار مشدودة من الحرير. متي بدأت زوبعة الرمال لم يكن للمسافر إلا أن يندفع في سيره غير وان، فإن الرمال اذا أصابت شيئاً ثابتاً، سواء أكان ذلك الشيء عاموداً أم جملاً أم رجلاً، تكدست حوله حتي تصبح ركاما. وهكذا إذا كان في السير عذاب وأهوال، ففي الوقوف الموت الزؤام. وقد تظل زوبعة الرمال علي أشدها خمس أو ست ساعات، وليس في ميسور القافلة أن تتابع التقدم حينئذ إلا مع الحرص الشديد علي تبين الطريق حتي لا تخطئه. وإذا تمرّدت العاصفة واشتدت فإن الإبل تكاد لا تتقدم، ولكن غريزتها تجعلها تتوقع الموت اذا وقفت عن السير. ويتجلي ذكاؤها الغريزي فيها عندما يبدأ نزول المطر إذ لا تحس خطراً فتقف بغتة أو ترقد. وتدفع العاصفة ذرات الرمل فتخترق كل شيء يحمله الانسان تملأ ثيابه وطعامه، تملأ حوائجه وآلاته العلمية، تبحث عن موضع الضعف فيما يذروها فتنفذ إليه منه، حتي يحس بها ويتنفسها ويأكلها ويشربها. وربما نفذت ذرات الرمل الدقيقة في مسام جلده فآذته كثيراً.

ويعرف البدوي خصائص هذه العواصف فيحيط بها علما كل غريب عن الصحراء. يقول البدو إن الريح التي تنذر بالعاصفة تهب مع النهار أو تقر مع غروب الشمس، ولا تقوم العاصفة في ليلة مقمرة، ولا تثور بين العصر والمساء. ولكن كل هذه القواعد الطيبة اختلت في رحلتنا الي جالو، فقد ثارت العواصف والقمر مشرق، وثارت والليل بهيم، وأصابتنا زوابع بدأت قبل الفجر وأخري ظلت الي ما بعد الغروب بزمن طويل. ودهتنا عواصف جمعت بين العصر والمغرب، حتي ما أحسسنا لضوء النهار بين هذين فارقا. واختلفت أنواع العواصف التي أصابتنا، فكان منها الضعيف والقوي، والقصير الأمد والطويل الهبوب، والثائر بالنهار والقائم بالليل.

هذا حال الصحراء في شدتها وقسوتها، في غضبها وثورتها علي أنها لا تلبث ان تكشف لنا عن وجهها الجميل، وتطلع علينا بصحيفة جديدة من صحف سحرها. فقد يحدث في المساء أن نكون في صراع هائل مع كتائب الرمال السافية، فتسكن الريح فجأة كأنها أمرت فامتثلت، ثم تقر حبات الرمل الدقيقة كأنها ضباب يستقر، ويُشرق القمر فتأخذ الصحراء شكلاً جديداً تحت ضوئه السحري الباهت الذي يغمر نواحيها.

أكانت هناك منذ هنيهة زوبعة ثائرة كادت تودي بحياة القافلة؟ من يستطيع أن يذكر ذلك؟ هل يعقل ان هذا الفضاء الهاديء البديع كان قاسيا قط؟ من يستطيع أن يصدق هذا؟ وهكذا لم تكن رحلتنا الي جالو بالسهلة، فقد كانت زوابع الرمال تضايقنا باستمرار، وبلغت في بعض الأحايين حد الخطر. وكان الشق الثاني من الطريق مملوءاً بغرود من الرمل اضطرت القافلة الي تجنبها بالسير حولها، مع ما في هذا التعرج من إجهاد للفكر ومشقة كبري في تتبع البوصلة. وقد زاد هذا الواجب مشقة من جراء ثورة الزوابع وسفيها الرمال في أبصار رجال القافلة. ورغما من هذا تابعنا السير مجدين، وكان لنا ساعات لهو وسرور أثناء هذه المرحلة، رغم ما لاقينا من أذي الرمال. فإن الذاكرة لا تنسي الليالي البهيجة التي كنا نجتمع فيها حول نار الحطب، نتناول كؤوس الشاي بعد العشاء فيبدأ الحديث رفيقنا مُغيب الشيخ الكبير، وألسنة النيران الراقصة تنعكس علي لحيته الشعثاء التي وخطها الشيب، ويقص علينا فصولاً من تاريخ قبيلة زوي، أيام كان جده يقصد واداي لمحاربة قبائل السود ويغنم الجمال والعبيد.

ويتبعه الرفيق صالح فيطرفنا بأخبار الربح الطائل الذي جناه ابن عمه حين سافر سفرته الأخيرة الي واداي فلم يحارب أحداً، وإنما جاء منها بالجلود وريش النعام والعاج، وباع كل ذلك في أسواق برقة. وكانت تميل نفسي الي سماع أغنية من أغاني العرب فأطلب ذلك من عليّ، وكان شاعرا وخطيباً لأخت حسين الذي تنم صباحة وجهه عن جمال أخته. وهنا تتجه أنظار علي الي عمه مغيب كأنما يسأله أن يأذن له إجابة طلبي، وهو مشغول عنا بسبحته متعمدا عدم الالتفات الي مجري الأمور الجديد، لأن الشيخ البدوي لا يليق لوقاره ان يستمع أغاني الحب من صغار الشبان. ولكن احترامه لي يدعوه الي الرضا بذلك وعدم ترك المجلس، فيقول لعلي بصوت خافت: غن البك ما دام يحب الغاني البدو . فيبدأ علي الغناء بصوته الرخيم الذي تحمله أجنحة نسيم الليل البليل، بينما تتهالك حبات سبحة مغيب بين أصابعه منتظمة متوافقة، كأنما لا يشغله شاغل عن الانقطاع لأداء فروض تعبده. ويغني علي فيقول:

مضيت أغني وكل النجع يسمع لي

حمرا مثيل الدم مخروطه عود البشم

خضره يعرفها اليم

إن كان لقيتها في الطريق خرقه نرشها دم

ويسكن صوت علي فلا أدري أي الشيئين أسرع انحدارا، أخيالي في مسراه البعيد أم حبات سبحة مغيب بين أصابعه؟ ثم يغني علي:

يا بصيلاة السقاي يم

ريقا عسل فوق السنون جرّاي

السمح خشمك ونابك العوّاي

يا مصيليبا مرقوق بصيد الخلا جرّاي

أتلميني معاك ولا صابك راي

بطنك ضامر سوط مرقد صدرك جنّه

الغي ما يتخبا

والأجل عند الله

حتي إذا انتهي من غنائه غشي القافلة سكينة شاملة، اللهم إلا أزيز النار الخامدة والصوت المتناسق المنبعث من حبات السبحة التي تغير هزجها تغييرا محسوساً، لأن أصابع مغيب وقفت بغتة ثم أسرعت في إطلاق الحبات، كأنما أراد ذلك الشيخ أن لا يشعرنا بوقوفه عن التسبيح، وإنما ألهاه عن الاطراد في تسبيحه تحليق خياله في سماء الماضي الذي كان فيه شابا محبا والذي هاج ذكرياته غناء علي. ومن يدري اذا كان كل جالس معنا عاشقا، وكان من حسن حظه انه لم يمسك سبحة تفضح سره.

واجتزنا بئر أبي سلامة وهي بعد الجغبوب بسفر يوم، فاخترقنا ناحية بها بقايا غابة متحجرة، وكنا نمر في سيرنا بقطع كبيرة من الأحجار قائمة كأنها أعلام في الطريق. وقد كانت هذه الصخور من أجيال بعيدة أشجاراً نامية، ولكن عوامل الطبيعة نقلتها من مملكة النبات الي مملكة الجماد. وكان هناك قطع قليلة متناثرة من الأخشاب المتحجرة، ولكن أغلبها كان مدفونا تحت الرمال. وإنما بقيت القطع الكبيرة ظاهرة، لأن عوائد الصحراء تقضي علي من يمر بعلم ساقط من هذه الأعلام أن يقيمه. ومن العادات أيضاً أن توضع في الدروب الجديدة أكداس من الصخر متقطعات تدل القوافل علي تلك الدروب.

وقد يحدث أن يمر الانسان بشجرة أو شجيرة، قد علق بها خرق من الأثواب ويتعين عليه أن يضيف إليها شيئاً من حوائجه، فيكون تكدس هذه الأشياء دليلاً علي وجود الشجرة في درب مطروق يشجع التابعين علي مواصلة السير فيه، لأن الشعور بمرور زميل سابق أمر ينعش قاطع الصحراء في ذلك السكون الشامل والفضاء الممل بتشابه مناظره. وإن رؤية روث الجمل وعظامه المبيضة، بل العثور بهيكل عظمي لمسافر قضي في الطريق يسر عين المار بها لأنها تؤكد له مرور قافلة في تلك الطريق من قبل.

وبعد تركنا الجغبوب بقليل، عثرنا بعلم مغاير لأعلام الطريق المألوفة. وكان ذلك أكواماً صغيرة من الرمل كأنها بيوت النمل ممتدة تعترض السبيل، ويسمي هذا العلم علم بوالظفر (بوزفر) وهو في الحقيقة رمز لعادة بدوية ظريفة. فإن المتعارف أنه إذا مرت قافلة بهذا العلم، وكان فيها من مر به لأول مرة، فعلي المسافرين الجدد أن ينحروا شاة للمسافرين القدماء الذين مروا به من قبل. وهذه العادة مشهورة بعادة بوظفر . فإذا لم ينتبه سالكو هذه الطريق لأول مرة الي أداء هذا الواجب، نبههم إليه من سبقهم الي قطعها بأن يتقدموا القافلة ويهيلوا أكوام الرمل في سبيلها، حتي إذا أوشكت القافلة أن تجتازها صرخوا قائلين بوالظفر، بوالظفر فانتبه رفقاؤهم، ونحروا الشاة وأقيمت المأدبة المألوفة. وكان في قافلتنا كثيرون لم يعبروا تلك الطريق من قبل وكنت بين هؤلاء. وأعددت العدة قبل تركي الجغبوب فاشتريت شاة أنحرها لمن تقدمني في اجتياز تلك الطريق من أفراد القافلة. ولذلك لم يكن رفقائي في حاجة الي تكديس أكوام الرمل في سبيلي، وتنبيهي الي هذه العادة الطريفة.

عودة للفهرس

البلبال و الحاث و النشا على طول الطريق و استقبالنا فى جالو

وقد أسعدنا الحظ في هذه الرحلة، فوجدنا مراعي لجمالنا علي طول الطريق حتي وصلنا جالو. وقد وقع لنا أحياناً أننا حدنا عن الطريق السوي للوصول الي البقاع العشبية، ولكنا كنا موفقين دائماً الي ايجاد ما ترعاه إبلنا. وتنمو في هذه النواحي ثلاثة أنواع من الأعشاب. فالبلبال عوسجة ذات أوراق لا تصلح طعاماً للجمال، وهي لا تنمو إلا علي مقربة من الآبار ولا تمسها الإبل عادة إلا إذا أحست بجوع شديد. وهنا يخشي عليها من المرض اذا لم يراقبها أصحابها مراقبة شديدة. والضمران (الحاث) عوسجة أخري تشبه البلبال، ولكن أوراقها أشد سواداً وسيقانها سمراء تصلح وقوداً وهي جافة. وهذه الشجيرة طعام جيد للجمال التي تقبل علي أكلها بشهية. أما النوع الثالث من هذه الشجيرات فاسمه النشا، وهي شجيرة ذات أوراق رقيقة متوشجة يصل ارتفاعها الي علو قدم، وهي صالحة لأكل الجمال. وإنما تنمو هذه الشجيرات في فصل الشتاء حيث يسقط المطر القليل. ولذلك لا يقوي البدوي علي قطع المسافة بين الجغبوب وجالو في فصل الصيف، ما لم يكن قد حمل معه علف إبله.

ووصلنا بئر عزيلة، وهي أول بئر بعد بئر أبي سلامة، في اليوم العاشر من رحيلنا عن الجغبوب. وعلم هذه البئر قليل من الشجر والأدغال الصغيرة المخضرة. وقد أمكننا أن نصل الي الماء العذب بعد أن جرفنا الرمال الهديلة علي جوانب البئر، ولكنا لم نصب منه كثيراً لأن مذاق ما وصلنا إليه بعد ذلك لم يكن في عذوبة ما وصلنا إليه أول الأمر.

وبعد ذلك بيومين أشرفنا علي ظاهر واحة جالو، ولم نكد نقرب الواحة حتي اندفع إلينا رسول جاء لمقابلتنا حاملاً خطاباً من سيدي محمد الزروالي، وهو من الإخوان السنوسيين، الذي أمره السيد إدريس أن يرافقنا الي الكفرة. وطلب مني الرسول أن أحط رحالي، حتي يتهيأ القوم لمقابلتنا بما يجب من الحفاوة والإكرام. وكان السيد إدريس قد أخبر رجال جالو عند تركه جالو قبل ذلك بشهرين أني قادم إليهم، وأمرهم أن يتلطفوا في لقائنا. وقد توقع أهل المدينة وصولنا مدة طويلة، حتي إذا أبطأنا عنهم ظنوا أننا غيرنا الطريق الي الكفرة. ونصبنا الخيام علي مقربة من المدينة، وبعد ذلك بساعات قليلة جاءنا جمع من البدو ووقفوا صفاً طويلاً مهيب الهيئة علي طول طريق قرية اللبة، وهي احدي القريتين اللتين تكونان جالو. وتقدمنا إليهم ونحن في أجمل لباس وأصلحه لذلك اللقاء الرسمي، وكان مع رجالي من الذخيرة ما يكفيهم لطلقات الترحيب.

عودة للفهرس

عشرة ايام فى واحة جالو

جالو واحة من أهم واحات برقة وهي على مسافة 240 كيلو متر من أقرب نقطة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط وراء جدابيا وعلى مسافة 600 كيلو متر من الكفرة الواقعة في الجنوب مباشرة وهي الواحة التي تخرج أكبر كمية من البلح في جميع تلك الجهات وفوق هذا فإنها المنفذ الذي تصدر عن طريقه حاصلات واداي ودارفور بعد مرورها بالكفرة. ويمر بجالو كل ما يرسل من الجهات الأخرى إلى الكفرة ولقد نعتها السيد البشاري وهو من كبار شيوخ قبيلة المجابرة فقال أن الصحراء بحر وجالو ثغر ذلك البحر.
وقد كانت هذه المدينة في أوج عزها منذ نحو ثلاثين عاما أيام كان المهدي متخذا الكفرة قصبة للطائفة السنوسية فكان يرتادها كل أسبوع قوافل مؤلفة من مائتين إلى ثلاثمائة جمل تسير بينها وبين جهات الجنوب ولكن هذه الحركة كانت قد نزلت إلى العشر أيام زرتها غير إنها تزداد ثانية في الصيف أيام موسم البلح.
وجالو مؤلفة من قريتين تفصلهما مسافة ميل وهما (العرق) و(اللبه) وتتناثر أجمات النخيل بين هاتين القريتين وحولهما ولا يقل عدد نخيل هذه الناحية عن مائة ألف نخلة.
وتقع (أوجله) على مسافة اثني عشر ميلا من غرب جالو وهي الواحة القديمة التي قال عنها هيرودوت إنها شهيرة ببلحها. وفي (أوجلة) هذه قبر عبد الله الصحابي الذي اشتهر بأنه كان كاتب النبي عليه السلام وهذه القصة مشكوك في صحتها. على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ كاتبا اسمه عبد الله الصحابي وإن هذا الصحابي هبط شمال أفريقيا وأن هنالك قبرا لرجل بهذا الاسم في (أوجله) وكم من أخبار صحت في الأذهان على أساس أوهى من هذه الشواهد ويروون أن السنوسي الكبير وجد جثة سيدي عبد الله الصحابي مدفونة في ناحية بعيدة ورأى في بعض أحلامه روح ذلك الجسد النائي تقول له (أخرج جسدي من مقره وضعه على جمل وحيثما وقف بي الجمل ابن لي ضريحا) وأطاع السنوسي الكبير الأمر وسافر بالجثة حتى وصل أوجله وعندها وقف الجمل بغتة وأبى أن يتقدم في سيره فأقيم ضريح محل وقوف البعير.

وقضيت في جالو عشرة أيام في إعداد العدة لرحيلي وفي قبول دعوات مشايخ العرب و رد هذه الدعوات والانقطاع إلى أشغالي العلمية. وكانت المآدب التي أقيمت لي غاية في إظهار كرم البدو فتناولت عشاء أول يوم في دار السنوسي (قدر بوه) حاكم جالو وتغديت في اليوم التالي عند البشاري أكبر تجار المجابرة وأشهرهم ووقف في خدمتنا مع أبنائه أثناء تناول الطعام كما هي عادة البدو. وتلقيت الغداء في اليوم الثالث من أعضاء المجلس وشاركني فيه الزروالي وعلي كاجا ومغيب. وجرى لي بعد الغداء حديث مع القاضي عن تاريخ السنوسيين فأراني خطابات من السنوسي الكبير وابنه المهدي وجاء العشاء في هذا اليوم من عند الحاج فرحات وهو من كبار تجار المجابرة أيضاً. وشاركني فيه الحاكم والزروالي وعلي كاجا ومغيب وعبد الله
وفي اليوم الرابع تناولت عند الحاج علي بلال المجبري غداء تقول عنه مفكرتي إنه كان جيدا جدا (وانه حضره الجمع المعتاد)
وجاءني العشاء من عند الحاج سعيد وهو من تجار المجابرة أيضاً. وفي اليوم التالي تغديت بدار الحاج غريبل وفي المساء وقع لي أهم حادث من حوادث الضيافة التي لقيتها ووضح لي كرم البدو بأجلى مظاهره حين دعاني فضليات نساء الأسرة السنوسية إلى تناول العشاء.
كان يقيم بجالو نساء كثيرات من الأسرة السنوسية بينهن زوج السيد إدريس وأخته. وقد أرسل إليّ أولئك السيدات الكريمات بعد وصولي جالو بقليل يدعينني للعشاء وهذا حادث غير عادي لأن نبيلات الصحراء لا يولمن الولائم للرجال كما تفعل نساء الغرب وأدركت بطبيعة الحال أني غير مدعو لتناول العشاء مع داعياتي ولكني قدرت هذا العطف من ناحيتهن فقبلت دعوتهن راضيا شاكرا. وجاءني السيد الزروالي والحاكم في الوقت المحدد لمرافقتي إلى دار الضيافة وكانت دار الحكومة في عهد الأتراك فأدخلنا إلى غرفة فسيحة ينبعث في جوها بخور زكي الرائحة وينتشر فيها نور ضعيف من سراج نحاسي فاخر وشموع كثيرة ويلقى أشعته الندية على ما في الغرفة من سجاجيد ثمينة وطنافس حريرية فيرسل عليها أضواء بهيجة.
وكان القائم بإكرامنا سيدي صالح وهو بعل سيدة من سيدات الأسرة السنوسية فاشرف على نفر من العبيد قدموا إلينا ما لذ وطاب من طعام وشراب. وبعد أن نلنا من كل ما قدم إلينا جريا على عادة البدو جاءنا العبيد بطسوت من النحاس فغسلنا أيدينا ثم تناولنا ثلاثة أكواب الشاي المعتادة ونثرت علينا قطرات الورد وأطلق زكي البخور. وبعد ذلك تقدم إليّ رئيس العبيد باحتشام وهمس في أذني سائلا أن كنت أحب أن أسمع شيئاً من الأغاني فيدير لي حاكيا (فونوغراف) ويسمعني بعض أسطوانات لمشاهير مطربي مصر. فأبيت شاكرا على تلطفه وربما كنت في ذلك مغضبا رفقائي. وإنما دفعني إلى الآباء رغبتي في الاستمتاع بوجودي في تلك الغرفة ذات الأثاث الفاخر والجو المعطر وإطلاق العنان لخيالي بعيدا عن صخب المدن وجلبتها في مناحي الصحراء ومجالي حياتها البدوية والإيناس إلى روحها التي تشيع في نفسي الخالية المنفردة.
وانطبعت ذكرى هذه الليلة الفريدة في خاطري لما رأيت من جمال المكان وأحسست من بعد عن العالم وما شعرت به من لذة الاستمتاع بضيافة شريفات البدو اللاتي اختفين عن عيني وكن ماثلات فيما أظهرن نحوي من دلائل الكرم والرعاية وحملت رئيس العبيد أجل تحياتي إلى السيدات وسألته أن يبلغهن تقديري لهذا العطف الشديد ثم خرجت إلى الصحراء في تلك الليلة البديعة تلعب كف النسيم بثنايا (جردي) فتثير في الجو ما علق به من نشر البخور وتهيج في خاطري ذكرى تلك الغرفة السحرية التي نعمت فيها بذلك المجلس الشهي.
وأصبح الصباح فأعددت وليمة أرد بها ضيافة من أكرموني أثناء الأيام الماضية ولكن غرفتي الحقيرة التي تتناثر فيها أمتعة سفري لم تكن من كمال الاستعداد بحيث تقارن بتلك الدار الجميلة التي تناولت فيها عشاء الأمس. غير أن علي كاجا أخذ على نفسه أن يجعل هذه الغرفة صالحة للوليمة بقدر ما تسمح به الظروف فاستعار من بيت السيد إدريس سراجين بديعين من النحاس وبعض أبسطة فاخرة وأضاف إلى ذلك بعض الرياش الأخرى وخلق من الغرفة بهوا يليق بإقامة مأدبة وكان بين ضيوفي حاكم المدينة وأعضاء مجلسها وأخوان سنوسيان والقاضي وعلي كاجا وموسى ضابط المدفعية السنوسية والسيد الزروالي ولبست أفخر ثيابي البدوية ثم وقفت في خدمتهم كما يقف رب الدار البدوي وقد سألني بعضهم ممن زار المدن أن أجلس معهم وأشاركهم الطعام ولكني أبيت واعدا أن أفعل ذلك إذا شرفوني بالزيارة في القاهرة. وقد أظهر طاهيّ أحمد حذقا شديدا في تنويع ألوان الطعام فقدم شيئاً من الصحاف الأوربية لم يسع ضيوفي معها السكوت عن مدحها والثناء على طاهيها. وكانت وليمتي هذه آخر الولائم فتركت بعدها أتناول طعامي خاليا هادئا وقد أراحني ذلك كثيراً وإن شكرت لضائفي ما أظهروا نحوي من دلائل الكرم وقد اهتممت أثناء إقامتي في جالو بعمل بعض الملاحظات العلمية فرصدت الشمس والنجوم لمعرفة خطوط الطول والعرض وواصلت ملاحظة البارومتر والترمومتر لمعرفة ارتفاع المكان ولما روجعت ملاحظاتي في هذا الشأن على الملاحظات البارومترية التي أخذت في سيوة في اليوم نفسه
ظهر لي أمر هام وهو أن سطح جالو في هذه الأيام أعلى منه بمقدار 60 مترا أيام زارها (رولفس) سنة 1879 فقد قرر هذا الرحالة أن جالو تكاد تكون موازية لسطح البحر ووجدتها أعلى منه بستين مترا. وكان تغير وجود هذا الفرق واضحاً أمام عيني فقد رأيت الرمال المتراكمة تتكدس حول جذوع النخيل وعلى جدران المنازل تكاد تغمرها جميعا. وكانت نتيجة ذلك أن انتقل بعض سكان المدينة من مساكنهم القديمة وبنوا ديارهم في جهات أكثر ارتفاعا. وما زاد ارتفاع جالو عن سطح البحر زهاء مائتي قدم في بحر أربع وأربعين سنة إلا تلك الرمال المضطردة التراكم التي تسفيها العواصف فتعترضها الأشجار والمنازل. وتجعلها ركاما. وكانت الدار التي أقمت فيها وقيدت بها ملاحظاتي أعلى من بقية دور جالو بزهاء العشرين مترا. وكنت شديد الحرص في أخذ هذه الملاحظات لأن البدو يسيئون الظن بكل جهاز علمي فما بالك بآلة (التيودوليت) التي ربما ظنوا أني باستعمالها ارسم خريطة لتلك الأصقاع بقصد العودة لغزوها. ولم يفتني وقد رآني شيخ من شيوخ البدو وأنا اشتغل بالتيودوليت أن أفسر له بسرعة واهتمام أني اعمل في إعداد إمساكية لشهر رمضان. وكان عبد الله وليس بالبدوي الساذج يعينني كثيراً في سبيل تمهيد ملاحظاتي العلمية وكان اختصاصيا في الاحتيال على تفادي العقبات التي تعترض سبيل أعمالي مظهرا في ذلك حذقا شديدا في منع سوء التفاهم.
كنت ذات يوم أعمل على مسافة من جالو بعض الملاحظات بواسطة جهازي فمر بنا أحد سكان المدينة وسأل عبد الله ماذا تعمل فقال له إننا نأخذ صورة لجالو فقال البدوي (أتأخذون صورتها على هذا البعد) فأجابه عبد الله على الفور (أن هذه الآلة تجتذب الصورة فتطير إليها وتنطبع فيها) فقال البدوي المرتاب (وكيف يجتذب الصندوق صورة) فهز عبد الله كتفيه وقال (سل المغناطيس كيف يجذب الحديد) وهكذا انتهت هذه المناقشة التي أظهر فيها عبد الله حذقا ولباقة.

عودة للفهرس

شيوخ تجار صحراء ليبيا

وجالو مركز قبيلة المجابرة (البدو) شيوخ تجار صحراء ليبيا وبها بعض رجال قبيلة (زوى) ولكن أكثرية الألفين الذين يقيمون فيها من المجابرة. ولهؤلاء ميل غريب للتجارة فإن الرجل منهم يفخر بأن أباه مات فوق سرج جمله كما يفخر ابن الجندي بأن أباه مات في ميدان القتال.
وكانت العلاقات متوترة أيام إقامتي ب
جالو بين السلطات الإيطالية وبين السيد إدريس فمنعوا إرسال البضائع من بنغازي وغيرها من ثغور برقة إلى البلاد الداخلية ولذلك ارتفعت أثمان الحاجيات ارتفاعا سريعا في مدن الصحراء كجدابيا وغيرها وسمع تجار المجابرة من أهل جالو بحالة التجارة في جهات الشمال وكان معهم بضائع كثيرة من مصر فلم يترددوا في الاستفادة من هذه الفرصة وغيروا وجهتهم فساروا شمالا بدلا من أن ينحدروا جنوبا وباعوا بضائعهم في جدابيا فربحوا ربحا وافرا ثم عادوا سراعاً إلى مصر والجنوب يطلبون بضائع أخرى وعادوا بها إلى جالو فقارنوا بين ارتفاع الأثمان في جدابيا والكفرة ثم اختاروا منهما اعمرهما سوقا لتجارتهم.
وأعجب ما في الصحراء سرعة انتقال الأخبار من بلد إلى آخر مع ما هنالك من بعد الشقة بين تلك البلاد فإن المسافة بين جالو وجدابيا خمسة أيام وبين
جالو والكفرة زهاء الخمسة عشر يوما ومع أن القوافل تسير بسرعة غير كبيرة. وأحسب أن التعليل الصحيح لهذا هو أن كل شيء في الصحراء نسبي فالأخبار تسير مع خطو الجمال وكذلك كل ما عداها. وإن أشتهر المجابرة بالتفوق على غيرهم في الاشتغال بالتجارة فإن لقبيلة (زوى) ما يدعو إلى الفخار. والمنافسة بين هاتين القبيلتين كامنة تهيجها الظروف من وقت لآخر. والزوى محسودون من جميع قبائل برقة لأن منهم علي باشا العابديه وهو الذي يلي السيد إدريس في المرتبة بين السنوسيين. وعلي باشا هذا جندي ماهر وكان سندا قويا للسيد إدريس وموضع ثقة عنده.
وقد تناولنا ذات ليلة حديث المنافسة بين زوى وباقي القبائل وكان ذلك في جالو بعد تناول العشاء فناقش سيدي صالح وهو من سلالة النبي عليه الصلاة والسلام لا ينتسب لأي قبيلة في برقة - مع رجلي مغيب الزروالي وهما من قبيلة زوى في شأن تلك المنافسة وبعد أن سمع منهما الإفراط في مدح قبيلتهما هز رأسه ثم قال (قد يكون تاريخ الزوى مجيدا كما يقول سيدي مغيب ولكنهم قوم لا يخشون الله) فانطلق مغيب قائلا (والله يا سيدي صالح أنهم يخشون الله ولكنهم لا يخافون الإنسان. والويل لمن يتعرض لقافلتهم أو يسطو على خيامهم). ثم التفت إليّ وقال (لقد باركنا السيد المهدي إذ هبط علينا في الكفرة قصبتنا ثم اختفى منها). ولم يقل مات لأن السنوسيين لا يفوهون بكلمة الموت وإنما يستعملون كلمة اختفى وما ماثلها في التعبير إذ الشائع بينهم أن المهدي لم يمت وانه يهيم في نواحي الأرض حتى يعود إلى رجاله أهل الصحراء. وأحب شيوخ السنوسيين إلى الزوى السيد المهدي لأنه نقل مركز حركة الطائفة إلى الكفرة وبنى فيها قبة المسجد التي هي أجمل مظاهر فخر تلك المدينة.

عودة للفهرس

تأجير الجمال فى جالو للذهاب للكفرة

ولم أستطع في جالو كما عز علي من قبل في الجغبوب أن أجد جمالاً في انتظاري ولكن السبب في الحالين لم يكن واحداً. ولم تكن حيرتي هذه المرة بحيث ضايقتني كالمرة السالفة. فقد كنت اتفقت على أجر الجمال وكان صاحبها عمر أبو حليقة على قدم الاستعداد للمسير عند عودة إبله من مراعيها فإن البدوي العاقل لا يدع جماله تقطع مرحلة بعيدة من غير أن يشبعها علفا ناضرا قبل رحيلها. والمرحلة إلى الكفرة طويلة وخالية من كل مرعى وتضطر الجمال في قطعها إلى الاكتفاء بالبلح الجاف والجمال يعد البلح الجاف مؤذيا لكبد جماله فيدعها تأخذ كفايتها من الأعشاب قبل السير.
وكان أبو حليقة قد أرسل إبله إلى مرعى قريب وأمر رعاتها أن يحضروها في اليوم المحدد ولكن الإبل لم تظهر في الموعد المضروب. وعجبت لذلك في اليوم الأول ثم انشغل بالي في اليوم الثاني وتملكتني الحيرة في اليوم الثالث خيفة أن تكون الجمال قد أبقت من رعاتها. على أن شيئاً من ذلك لم يكن فقد ظهرت في اليوم الرابع اكمل ما تكون تأهبا للسير. وكريت خمسة وثلاثين جملاً بأجر باهظ مع إنه كان في مقدوري أن أشتري الجمل منها بثمن يتراوح بين اثني عشر وثمانية عشر جنيها بينما طلب أبو حليقة في الجمل الواحد ثلاثة عشر جنيها ونصف جنيه أجرا عن الشهرين أو الثلاثة الأشهر التي يستغرقها السفر إلى (بشة) في واداي. وكان تأجير الجمال أوفق لي لأن امتلاكي الإبل يوقع علي مسؤولية سلامتها طول الطريق ويضطر رجالي إلى الانقطاع لتعهدها مدفوعين بالأمانة والرغبة في نجاح الرحلة. ولكن مرافقة أبي حليقة ورجاله لجماله مهدت سبيل العناية بها والسير عليها طول الطريق فإن أبا خليقة لم يغفل لحظة عن تعهد جماله فكان يخفف أحمال الضعيف منها أو المريض. وظل مشغولا بها إلى آخر الرحلة فلم آبه كثيراً بما بذلت من مال في سبيل تحقيق رغائبي.
وأعوزتني الرجال كذلك على وجود أولئك الأربعة الذين انقطعوا لخدمتي ورافقوني من القاهرة والسلوم وسيوه وهم عبد الله واحمد وحمد وإسماعيل فضممت إليهم خمسة آخرين وهم الدليل السنوسي أبو حسن وسعد الأوجلي وحمد وفرج العبد والسيد محمد الزروالي الذي تفضل السيد إدريس فأمره بمرافقتي إلى الكفرة وكان مع أبي حليقة ولده وجمالان. وزاد على جميع هؤلاء خمسة من قبيلة التبو وهم من العبيد الرحالة (في تيبستي) الواقعة في الشمال الغربي من واداي. وكان عبد الله والسيد الزروالي رئيسي القافلة فكان أولهما منوطا بحراسة الحوائج والمؤن وثانيهما قائما بتعهد الرجال والجمال: والحق أقول إن هذين الرجلين كانا أصلح رفيقين يصحبهما الإنسان في رحلة صحراوية.
وكنا في حاجة إلى ملابس وبعض أنواع من الأطعمة وفي عوز شديد إلى أحذية فإن الحذاء البدوي الخالي من الكعب -وهو أصلح الأحذية للسير على الرمال- هو كل ما تصل إليه يد السائح في الصحراء ولكنه يبلى بسرعة ويضطر صاحبه إلى رتقه في الطريق فكان على كل منا أن يجهز الجلود اللازمة لرتق حذائه حتى يصل الكفرة.
ووجدت في
جالو صانع أحذية شهير وهو حميده الذي كنت لقيته منذ سنتين في الكفرة فاستدعيته وأعطيته الأحذية التي صنعها إذ ذاك وهي في حاجة ماسة إلى الترقيع ففرح كثيراً حين طلبت منه إصلاحها. وكان حميده رجلا مهيب الطلعة يصح أن يحسبه رائيه قاضيا أو عضو مجلس على الأقل. وقد اختلف إلى داراي يعمل في رتق أحذيتي الخمس وصنع أحذية أخرى لرجالي وإصلاح سروجنا وغيرها من الحوائج الجلدية. وكان يسره كثيراً أن أدعوه للغذاء ثم أقدم له بعد ذلك كوبا من الشاي وحدث ذات يوم أن أخذه السعال عند تقديم الشاي إليه فأظهرت إشفاقي عليه من دائه فنظر إلي من وراء كوب الشاي وقال بصوته الخافت (أن الشاي الذي تقدمه لي يشفيني من السعال يا سيدي البك ولا أجد الشفاء في غيره) ولم تخف عني هذه الإشارة اللطيفة فأتحفته بقليل منه قبل تركي جالو.
واشتريت ملابس لرجالي وسمنا وزيتا وشعيرا ووقودا وثماني قرب. وأخبرني علي كاجا وهو عبد السيد إدريس الصفي ووكيله الأمين في جالو أن سيده أمر بوضع مخازنه تحت تصرفي فشكرته ولم أمدد يدي إلى شيء فقد تركت مصر مزودا بكل ما احتاج إليه وأنا أعرف فوق هذا أن ما لديهم يحتاجون إليه أشد احتياج لتعذر الحصول عليها في الصحراء.

عودة للفهرس

حفلة الوداع فى جالو

تأهبت للسير يوم الخميس 15 مارس فصحوت في الساعة السادسة أهيئ حوائجي وقضينا في إِعداد كل شيء ثلاث ساعات كما هي العادة في أول يوم من أيام السفر نظرا لعدم تعود القافلة على ما يستلزمه السفر من ربط وحل وكان علينا أن نسير على عادة البدو من (التجهيز) وهو الاصطلاح الذي يطلق على الذهاب إلى بئر قريبة قبل البدء في سير طويل والاستعداد في بحر بضعة أيام لعمل الترتيبات الأخيرة بعيدا عن مشاغل حياة المدن وكانت بئر بو الطفل وهي على بعد ثلاثين كيلو مترا تقريبا من جالو - البقعة التي أردنا أن نجري عندما (التجهيز)
وبعد أن تم حزم كل شيء جاءنا حاكم المدينة وأشرافها وإخوانها ليقوموا بتوديعنا فجلسنا جميعا القرفصاء نتشاور في أمر الرحلة. وكنت قد سافرت إلى الكفرة قبل هذا بسنتين في ظروف أكثر موافقة وأسعد حظا ومع ذلك فقد ضللت الطريق قبل الوصول إلى الكفرة وكان الجو في رحلتنا السالفة أشد ملاءمة والريح والعواصف أضعف هياجا والقافلة أقل عدداً.
ولم تشغلني في رحلتي الأولى مسألة إعداد الجمال وعلفها وتهيئة الرجال وطعامهم وأدواتهم لأن السيد إدريس تفضل فقام عني بتعهد القافلة ولوازمها وكانت هذه الرعاية من جانبه باعثا قويا على تهدئة خواطر البدو وإزالة ريبهم ومحو نزعة الكراهية فيهم للأجانب ولكني وجدتني هذه المرة مضطرا لترتيب كل شيء بنفسي مع ما يبعث في نفوس العرب من الدهشة أمثال هذه القافلة الكبيرة التي تحمل كمية وافرة من الحوائج التي تستلزمها رحلة طويلة، والطبيعة قاسية في قطع المسافات الطويلة الخالية من الماء وهي فيها عدو الإنسان الوحيد وفي مقدورها أن تكون عدوا لدودا شاءت ولكن تضامن الرجال وغيرتهم على العمل مما يجعل القافلة تهزأ بالحوادث وتمضي في سيرها آمنة مطمئنة. وكان رجالي الأربعة الذين استحضرتهم من القاهرة والسلوم وسيوة على أحسن ما يكون من لطف المعاملة كل من لاقينا. وكان الزروالي وهو الأخواني الذي انتدبه السيد إدريس لمرافقتنا مثال اللطف والإخلاص وقد أفرغ كل جهده في توفير أسباب الراحة أثناء الرحلة. والحق أقول أني لم أكن أحمل هما للطوارئ مهما قسمت علينا الطبيعة.
وبعد أن حمّلنا الجمال بدأت حفلة (الموادعة) التي اعتادها العرب فوقفت مع رجالي على شكل نصف دائرة وواجهنا شيوخ جالو وإخوانها وقد وقفوا على شكل نصف دائرة أخرى. ورفعنا الأكف خاشعين مبتهلين أن يبارك الّله رحلتنا وأن يسدد خطانا ويرجعنا سالمين إلى الأوطان وقرأنا الفاتحة وأمّن عليها أكبر الأخوان سنا ثم تبادلنا الشد على الأيدي وبدأنا السير بين صراخ الرجال تستحث الجمال وزغردة النساء تدوي في الفضاء.

وزاد إقبالنا على السفر ما حدث لنا اختراقنا اللبة وهي ثانية القريتين اللتين تكوّنان مدينة جالو فقد لاح لنا على جانب الطريق بدوية رشيقة القوام قد انفردت وهي مسدلة نقابها على وجهها فلما مررنا بها أدار رجالي الأبصار إلى الفتاة وصرخوا بصوت واحد (وجهك وجهك) فعطفت البدوية وأزاحت نقابها وهي خفرة فكشفت عن وجه بديع القسمات صافي الأديم ينم عما عرف في فتيات البدو من حياء وجلال. وبهر جمالها رجالي وملك أدبها نفوسهم فأرسلوا عبارات الإعجاب والسرور ولم يسعني أمام ذلك إلا أن أسير على عوائد البدو في مثل هذه الظروف فأمرت رجالي أن يفرغوا البارود عند قدميها. فتقدم حامد ورقص أمامها رقصا رشيقا كأنما يوقع له الطبل إيقاعا منتظما وهو ممسك بندقيته فوق رأسه بكلتا يديه جاعلا فوهتها إلى الأمام ثم أقترب منها وهو يغني أنشودة بدوية من أناشيد الغرام حتى إذا صار قبالتها هوى على ركبة واحدة وصوب بندقيته إلى موطن قدميها ثم أطلق النار على قيد شعرة منهما. وكان هدفه من القرب والدقة بحيث أصاب لهب البارود حذاء الصبية فشاطت جوانبه. ولم تجفل عند إطلاق النار بل ظلت منتصبة القامة فخورة بالشرف العظيم الذي نالته لأن الحذاء الشائط في أرجل الغادة البدوية دليل فخار تسمو إليه فتيات الصحراء.
وحاكى سعد أخاه حامدا حتى إذا انتهى من إطلاق النار صرخ رجال القافلة مهللين مستبشرين وبدأنا المسير وبسمت الصبية في أثرنا كأنما سرها ما لقيته من إكرامنا لها تفاؤلا بالوجه الصبيح تشرق علينا طلعته في أول ساعة من ساعات السفر واحتوانا فضاء الصحراء فوصلنا بعد سير ثماني ساعات إلى بئر أبي الطفل حيث نوينا الإقامة يوما وقضينا ليلتنا أطرب ما تكون وسمرنا حتى منتصف الليل في حديث وغناء حتى إذا تهيأ رجالي للنوم أخذت (غليوني) وانطلقت أخلو بنفسي ولم يكن أحب إلى في الصحراء من تلك الرياضة الانفرادية التي أدخن فيها (غليوني) الأخير قبل الأقدام على السفر الطويل وأنا هادئ البال وادعه. وكنت راضيا عن كل شيء. يسرني التوفيق في اليوم السعيد ويملأني الأمل في الغد إذا أخطأني الحظ في يومي الحاضر. ولا أكون مبالغا إن قلت أني لم ادخل فراشي ليلة من ليالي السفر وأنا أحمل في نفسي هما من الهموم مهما ضايقتني الظروف أو آذتني الأحوال. وقضينا اليوم التالي في التمهيدات الأخيرة للسفر ولحقنا أبو حليقة صاحب الجمال في قافلة صغيرة مكونة من ثلاثة جمال وتبعه في نفس اليوم رجل من
جالو.

وكنا في حاجة إلى حبال ومشد ولكن بائعيها بالغوا في طلب الثمن وأطال عبد الّله معهم الفصال وترك البت في أمر الشراء حتى آخر لحظة واتفق مع رجل منهم اسمه السنوسي أبو جابر على أن يتبعنا بالحبال إلى أبي الطفل. وحضر الرجل فجاء إلى خيمتي واخبرني أن له أخا في واداي وطلب مني أن آخذه معنا على شريطة أن يخدمنا طول الطريق قياما منه بنفقات الرحلة فتوسمت الرجل وعرفت أنه جدير بمرافقتنا وساقني منه على الخصوص ظرف وفكاهة نحن أحوج ما نكون إليهما في قطع الصحراء فقد تخون الإنسان قواه فيستعين على تحمل التعب بإشعال باله بسماع المُلَح المستطرفة وكنت أود أن يرافقنا ولكن ذلك لم يكن بالأمر الهين كما يدل ذلك الحديث الذي جرى بيني وبينه
قلت أنا مسافرون في التوّ وليس لديك من الوقت ما يمكنك من السفر إلى جالو والعودة بأمتعتك. فقال (أن لدي كل ما أحتاجه)، فسألته وأنا أدور بعيني مندهشا: (وأين حوائجك؟)، فأشار إلى قميصه وعصاه وقال: (هات كل ما يلزمني)، فضحكت من أعماق قلبي حيث رأيت أن هذين الشيئين هما كل ما يحتاجه الرجل في رحلة صحراوية متعبة وشاركني في ضحكي طروبا. ورضيت بمرافقة لنا ولم اندم على ذلك فيما بعد فقد خبرته أثناء السفر فكان من أحسن رجالي. وسقينا الجمال في اليوم التالي ولم نكن في ذلك بالمتعجلين لأن حال الجمال أهم في قطع الصحراء ولا يكتفي بإشباعها وتسمينها قبل الرحيل بل يجب تركها تشرب جهدها من الماء وفق رغباتها والسماح لها بعد ذلك بالراحة. واستعدت الجمال فحمّلناها بعناية شديدة لأن وضع الأحمال بدقة على ظهور الإبل في مبدأ الرحلة يوفر وقتا طويلا وعناء شديدا أثناء السير فقد يوفر المسافر يوما أو يومين من الوقت المحدد للرحلة إذا لم يُضع وقتا طويلا في وضع الأحمال ورفعها يوما بعد يوم.

عودة للفهرس

انطلاق القافلة من جالو الي الكفرة

وتأهبنا للسير في منتصف الساعة الثالثة وما كادت الإبل تتحرك حتى دوى صوت أبي حليقة بالآذان جريا على عادة البدو عند البدء بالسير. فإن التقاليد البدوية تزعم أن القافلة التي تستهل سيرها بالآذان تختمه بالآذان كذلك غير ملاقية في الطريق أذى أو مصيبة. وقد زاد عدد القافلة بالتدريج حتى أصبحت تضم تسعا وثلاثين أنا ورجالي الأربعة عبد الّله وحمدا واحمد وإسماعيل والسيد الزروالي وأبا حليقة صاحب الجمال وابنه وابن أخيه وعبده وداود عم الزروالي وكان مزمعا السفر على جمله الوحيد إلى واحة تيزربو لإحضار زوجه وابنته. ودليلنا أبو حسن والسنوسي بو جابر صاحب القميص والعصا وحمد الزوى مغنينا المطرب وسعد الاوجلي وفرج العبد وعبدان من قبيلة التبو وبرفقتهما ثلاثة جمال وثلاثة عبيد آخرين من نفس القبيلة ومعهم ثلاثة جمال محملة بضائع بقصد تسليمها إلى بعض تجار الكفرة.
واتجهنا جنوبا قاصدين الكفرة وكان يوم الرحيل حارا شديد الريح ورمال الأرض المنبسطة متماسكة تتناثر عليها صغار الحصى. وكان مقصدنا الأول بئر الظيغن التي قدرنا الوصول إليها في تسعة أيام. وكانت العادة قبل عهد السنوسيين أن تقطع هذه المرحلة في بحر أربعة أيام من غير تقف القوافل في الطريق لتناول الطعام أو طلب الراحة ولكن السنوسيين أبطلوا هذا وأدخلوا عادة حمل الزاد والماء الكافيين للقيام بهذه المرحلة في ضعف الوقت السابق وتمكين الرجال والجمال من الراحة كل يوم
ولم تقبل الجمال على السير بادئ بدء لأنها لم تكد تترك مراعيها التي تؤثر العودة إليها عن السير في الصحراء فحاول أبو حليقة أن يجعل تجار التبو يتقدمون القافلة بجمالهم ولكنهم رفضوا ذلك بلياقة لأن السير في المقدمة شاق على الجمال إذ يفضل الجمل أن يلحق سابقه عن أن يسير في الطليعة غير تابع يضطر الجمل المتقدم في بعض الأحيان إلى الاستمرار في السير باللكز والضرب بالعصا. وهذا هو السبب الذي دعا العبيد إلى تفضيل السير في مؤخرة القافلة حتى لا يضطرون إلى استحثاث إبلهم. ولم يأب أبو حليقة أن ينزل لهم عن هذا ولكنه استفاد من خدماتهم أثناء السير
واستمر اشتداد الحر وهبوب الريح حتى عصر ذلك اليوم ثم حل المساء فقرّت الريح واستحالت نسيما بليلا وبدأت الصحراء تأخذ رونقها الساحر. وأني لأجد في يومياتي التي كنت أكتبها أثناء الطريق بضع فقرات دونتها وصفا لإحساسي عند عودتي إلى هذه الصحراء التي طرقتها من قبل وشعوري بالاقتراب من الجهة التي ضللت فيها الطريق منذ سنتين والى القارئ بعض ما كتبت: (هذه عين الصحراء المنبسطة التي تهيج في خاطري ذكريات قديمة كما أكثر الإنسان غفرا لشمس الصحراء المحرقة ورياحها العاتية إذا هدأ المساء وغربت الشمس وطلع القمر وهبّ النسيم وانيا بليلا وما أسرع ما ينسى أخطارها في الاستمتاع بملذاتها التي تحببها إليه رغم قساوتها وجفائها، إني لأنسى آلامي في كوب من الشاي وفي (غليون) أدخنه ورجال القافلة نيام وتحمل أذيال النسيم عبقه الفياح. وأجد لذة في رؤية انعكاس ألسنة اللهب على وجوه رفقائي بين شيخ مغضّن الجبين وشاب ناعم الأديم. وتطربني ملاحظة الرجال يعملون فمنهم الموفقون ومنهم الخائبون ويملأ نفسي فوق كل هذا إحساسي بالقرب من الّله جل وعلا والشعور بحضرته)

عودة للفهرس

مواضيع ذات علاقة

  1. جالو فى مذكرات احمد محمد حسنين باشا 1922  ترجمة مشرف الواحة

  2. الرحالة احمد محمد حسنين باشا فى صحراء ليبيا المصدر جريدة الراية القطرية زاوية ثقافة و ادب ركن صفحات في ادب الرحلات

  3. من كتاب رحلة الى افريقيا لـ كاثرين هوتون 1756- 1846 ترجمة مشرف الموقع 
  4. من مذكرات فريدريك هورنمان ترجمة مشرف الموقع

 

كتب للكاتب و الرحالة احمد محمد حسنين باشا


كتاب احمد حسنين باشا على موقع قوقل

14-03-2010

 

 
 

جالو ليبيا
اخر تحديث: 11/01/2012م.