• الرئيسية • اخبار • مواضيع علمية • مواضيع ادبية • البوم الصور • روابط مختارة • سجل الزوار • المنتدى •

الليبيون في دارفور: هجرة منسية «3»

"الحاج منصور محمد طاهر أبو صفيطة"

للصحفي: المتوكل محمد موسى

المصدر جريدة الصحافة السودانية

 

في الحلقتين السابقتين تعرضنا للهجرات الليبية الى دارفور، ولما كانت مساهمات ومشاركات هؤلاء المهاجرين في الحياة العامة في دارفور متباينة ومتنوعة، آثرنا أن نسلك نهجاً في السرد يعتمد على ذكر أمثلةٍ من رموزهم لتسليط الضوء على جوانب من حياة هؤلاء المهاجرين عبر قادتهم وشيوخهم وشخصياتهم المحورية... الذين يمثلون أبناء الجيل الأول، شهود عصر آبائهم... وخاصة من ذاع صيتهم منهم بين الناس. نتعرض اليوم لفيزان الفاشر عبر لسان الحاج منصور محمد طاهر أبو صفيطة... الذي عاصر والده المهاجر شيخ الفيزان... والذي توفى بعد أن تأهل الحاج منصور وأنجب عدداً من أبنائه.
أخبرني الحاج منصور أن الليبيين قد وفدوا إلى دارفور تحضهم أسباب كثيرة كالرعي والتجارة... لكن أكثر الليبيين هجرةً إلى دارفور كانوا هم أولئك الذين يُعرفون «بالهجيج»، والهجيج مصطلح قد أُشتق من الفعل هجَّ.. والاسم يعني عند الليبيين أولئك النفر الذين أجبرهم عنت الطليَّان وجبروتهم إلى الخروج من ليبيا فارين بأسرهم وأموالهم... وقد استقر عددٌ كبيرٌ منهم في مدينة الفاشر في دامرة خور سيال التي سموها «الكَدْوه» وهو لفظٌ يطلقونه على المكان المرتفع... كما أخبرني أيضاً أن هناك آخرين قد استقروا في مدينة الدور... واتخذوها دامرة لهم خاصة أصحاب المواشي منهم... ومنطقة الدور تقع شمال مدينة كتم في ولاية شمال دارفور... إلا أن ليبيي الدور غادروها بعد أن سكنوا فيها عدة عقود واتجهوا إلى دولة تشاد... وما ينطبق على مدينة الدور ينطبق على الليبيين الذين سكنوا في مدينة ودعة جنوب مدينة الفاشر... وكان أشهر مهاجري مدينة ودعة السيد مفتاح معيقل... الذي رحل فيما بعد واستوطن في مدينة نيالا وعمل بالتجارة هو وجزءٌ من أهله الورفلة، وقبائل أخرى من الليبيين المهاجرين... أما باقي الليبيين فلم يطب لهم المقام في مدينة ودعة... فغادروها إلى مناطق أخرى في السودان... ويُقال إن أغلبهم قد واصل هجرته إلى دول الجوار الأفريقي.
ربطت الشيخ محمد طاهر أبو صفيطة وأهله من الليبيين المقيمين في مدينة الفاشر علاقات طيبة بالسلطان علي دينار... فكانوا موضع ترحيبٍ وحفاوة في مجلسه... ولذا كانوا يدخلون عليه دون إذن مسبق، وكان السلطان علي دينار يرى فيهم ضيوفه الذين استجاروا به من الظروف القاسية التي أجبرتهم على الهجرة من وطنهم ليبيا، لذا كان كريماً ودوداً معهم... لقد تقدم الشيخ محمد طاهر بطلب للسلطان علي دينار ليسمح له ببناء مسجدٍ في منطقة جبل مرة... لكن السلطان علي دينار لم يُصدِّق له بذلك... وصدَّق له ببناء مسجد في مدينة الفاشر، ولا ندري ما هو السبب الذي أدى إلى رفض السلطان بناء مسجدٍ في جبل مرة وسمح ببنائه في مدينة الفاشر... إلا أن الشيخ محمد طاهر وحال منحه تصديقاً لبناء المسجد سافر إلى ليبيا وأحضر معه عالمين هما الشيخ أبو بكر الغدامسي، الذي كُلِّف بتدريس وشرح القرآن، والشيخ سيدي التواتي عبد الجواد الذي كُلِّف بتعليم تجويد القرآن في الخلوة والمسجد... تم بناء المسجد بالطين في أول الأمر... ثم أعاد الشيخ محمد طاهر أبو صفيطة بناءه بالطوب الأحمر، ثم بنى فيه غرفاً ملحقة تستخدم لسكن «الفقرا» وطلاب العلم. ثم التحق فيما بعد، بالعالمين المذكورين، عالمٌ آخر متخصص في تدريس علوم الدين الإسلامي، اسمه أبو القاسم التواتي الذي أصبح فيما بعد إماماً للمصلين في المسجد، وقد سألت الحاج منصور، إن كانت هناك صلة قرابة تربط بين سيدي التواتي عبد الجواد و الشيخ أبو القاسم التواتي... فأجابني أنه لا توجد صلة قرابة بين الرجلين وإنما تطابق في الاسم وحسب، وفي سنوات متأخرة من عمر المسجد قام السيد إسماعيل محمد طاهر أبو صفيطة ببناء معهد ديني في باحة المسجد لتخريج الدارسين الدعاة وما زال مسجد أبو صفيطة الذي يُعرف بجامع الفيزان يؤدي رسالته المقدسة في مدينة الفاشر إلى تاريخ هذا اليوم.
كان الشيخ محمد طاهر أبو صفيطة يجمع التبرعات من المهاجرين الليبيين ومن عامة أهل دارفور بمدينة الفاشر وغيرها دعماً للمجهود الحربي في ليبيا الذي كان يحمل لواءه الشيخ المجاهد عمر المختار ورفاقه المجاهدون... فكان يشتري مما يجمعه القرب التي يُحمل فيها الماء... وكمياتٍ كبيرة من اللحم المجفف الذي يُسمى بالقديد... ويشتري جنيهات من الذهب ويرسل هذه المساعدات في قوافل تسير متجهة نحو ليبيا... وقد كانت لهم طرق في الصحراء يعرفونها جيداً... تُفضي بهم إلى معاقل المجاهدين في ليبيا... فلا يستطيع الطليَّان معرفتهم أو كشفهم. وقد تبادل الشيخ محمد طاهر من جهة والمجاهد عمر المختار وقائد جيشه الأعلى أحمد الشريف من جهة أخرى، رسائل تفيد بوصول المعونات وأخرى تفيد باستلام المعونات. ووثائق هذه الرسائل توجد الآن لدى الحاج منصور محمد طاهر.

 

صورة من المراسلات مع شيخ الشهداء

مصدر الوثيقة صفحة الاخت ‏زهرة النسرين على الفيسبوك

 


لقد عمل المهاجرون في الفاشر في عدة مجالات، فكان منهم صغار المنتجين والعمال... وامتهن عدد منهم التجارة... وقد اختلفت مقادير ثرائهم في ذلك... واهتموا بتربية الأبقار والإبل والتجارة فيهما... وقد كان لشيخ الفيزان محمد طاهر أبو صفيطة القدح المعلى في هذا المجال، إذ كان أول من صدَّر الأبقار والإبل من منطقة الفاشر إلى جمهورية مصر العربية عن طريق الأربعين، كما سافر بتجارته إلى أم درمان، وكانت له علاقات مع تجار آخرين في أنحاءٍ أخرى من السودان، أمثال عوض الله حبيب في النهود وود المكي وقنجاري الاسم الأشهر في صناعة النقل الجوي في السودان حتى عهدٍ قريب... وذُكر أن أول دكان في سوق مدينة الفاشر والذي يحمل الرقم واحد في سجلات محلية مدينة الفاشر مسجلٌ باسم الشيخ محمد طاهر... فلقد حكي لي الحاج منصور قصة بناء متاجر سوق الفاشر... ذاكراً أن المفتش الانجليزي أرسل يطلب كل من الشيخ محمد طاهر أبو صفيطة والسيد بابكر كرم الله الذي كان يُعرف بلقب سر التجار والحاج بدوي زين العابدين والشريف عبد الرحمن كرار... فلما حضروا إليه أخبرهم بأنه يريد منهم بناء متاجر من المواد الثابتة في سوق مدينة الفاشر، فوافقوا على طلبه، إلا أنهم وبعد انصرافهم عنه لم يولوا الأمر أية أهمية... إلا أن المفتش الانجليزي دعاهم مرة أخرى عندما آنس فيهم تقاعساً عن بناء الدكاكين في السوق، فلما جاءوه نصحهم بأنه يجب ألا تغرَّنهم تجارتهم التي يمارسونها الآن وبهذه الطريقة البدائية ... لأنها لن تصمد عندما تبدأ الشركات بالحضور إلى مدينة الفاشر وستنخفض معدلات أرباحهم، لذا عليهم بناء متاجر بمواد ثابتة حتى إذا جاءت تلك الشركات استأجرت منهم تلك المواقع، الأمر الذي يعوضهم بعض الخسائر التي ستنجم عن الوفورات التي سيحققها مقدم هذه الشركات ببضائعها... فأذعن هؤلاء التجار لنصيحة المفتش الانجليزي وقد أثبتت الأيام صدق قوله.
لم يتورط الليبيون المهاجرون قط في نزاعات مع من ساكنوهم في مدينة الفاشر من القبائل المختلفة، بل إن شيخهم محمد طاهر لا يجلس في مجلسٍ للصلح إلا اُخذ برأيه وما يقترحه من حل... وقد أسهم في إصلاح ذات البين في العديد من حالات الخصومات والنزاعات بين الناس والأُسر في مدينة الفاشر... عندما توفي الشيخ كاكوم وقد كان عالماً من علماء مدينة الفاشر وصى بأن يُدفن في منزله... إلا أن الانجليز كانوا يمنعون دفن الموتى في المنازل... فاجتمع بعض أعيان مدينة الفاشر من أمثال حاج بدوي زين العابدين والريح الأمين والشريف عبد الرحمن كرار وأرسلوا إلى الشيخ محمد طاهر أبو صفيطة ليخبروه بأمر وفاة الشيخ كاكوم، وعندما حضر قيل له إن الانجليز يمنعون دفنه في منزله حسب وصيته... فقال لهم إنه سيذهب إلى المفتش ويبحث معه إمكانية مواراته في منزله حسب ما كان يريد... فلما دخل على المفتش قال له إذا توفى لكم قسٌ من أهلكم وكان قد أوصى بوصية ماذا أنتم فاعلون حيالها؟ رد المفتش بأنهم سينفذون وصيته... فعندها قال له لدينا شيخٌ وعالم دينٍ عزيزٍ علينا قد توفى الى رحمة مولاه... وقد أوصى بأن يُدفن في منزله ونحن نريد أن ننفذ وصيته تلك... فقال له المفتش وماذا تريد مني أن أفعل؟ فرد له الشيخ أريد تصريحاً بدفنه في منزله... فوافق المفتش وأمر الباشكاتب بإعطائه تصريحاً بذلك.... وتم دفن الشيخ كاكوم بمنزله حسب وصيته... وأيضاً من نجوم مجتمع مدينة الفاشر من المهاجرين الليبيين في زمن الانجليز، الفيزاني إبراهيم الوادي... فقد كان مولعاً بتربية الخيول والعناية بها، خاصة تلك التي يخوض بها السباق ضد خيول الانجليز المجلوبة من انجلترا... وكان دوماً ما يفوز بالسباقات... حتى صار جهير السيرةِ بذلك في مجتمع الفاشر... وكان السباق يبدأ من حي خور سيال الحالي في مدينة الفاشر وحتى ميدان النقعة في وسط المدينة... وقد حُوِّل مضمار السباق هذا إلى منطقة بير قونجي بالقرب من إستاد الفاشر الحالي لاحقاً... تلك بعض من ملامح الحياة الاجتماعية التي عاشها الفيزان في ديارهم الجديدة التي تؤكد أنهم نالوا احترام الناس وأصبحت لديهم مكانة اجتماعية مرموقة عند عامة الناس وخاصتهم.
ونواصل

سجل دخولك و علق على الموضوع

 



روابط على موقعنا

 

 

 

جالو ليبيا
اخر تحديث: 09/12/2010م.