• الرئيسية • اخبار • مواضيع علمية • مواضيع ادبية • البوم الصور • روابط مختارة • سجل الزوار • المنتدى •

الليبيون في دارفور: هجرة منسية «2»

"الشيخ المجاهد السنوسي محمد النفّار"

للصحفي: المتوكل محمد موسى

المصدر جريدة الصحافة السودانية

 

في المقال الأول، الذي كتبناه عن الهجرات الليبية إلى دارفور تعرضنا لهذه الهجرات بصورة عامة، وقلنا إنها هجرات تمت بصورة جماعية وفردية، وقد تعرضنا لأمثلةٍ من قبائلهم التي وفدت إلى دارفور وبعض من أشهر الأسر المقيمة منهم الآن في دارفور، والذين يُعرفون باسم الفيزان، وقد أوضحنا أن هجرة هؤلاء النفر، قد اقتضتها أسباب متنوعة... وقد ذكرنا أن أهم الأسباب التي أدت إلى هجرتهم هي التجارة والرعي وضغوط الاستعمار الايطالي... كما تعرضنا لبعضٍ من مساهماتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في وطنهم الجديد...

 

وسنتعرض اليوم لشخصيةٍ مثيرةٍ للانتباه، من هؤلاء المهاجرين... كان ملء السمع والبصر في غرب دارفور في ذلك الوقت... وتحديداً في سلطنة دار مساليت... وكنا قد تعرضنا لها في المقال السابق بصورة عابرة لكنها- أي الشخصية هذه -تستحق أن يُفرد لها حيز أكبر وذلك لما لمساهماتها من أثرٍ كبيرٍ في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ذلك الزمان وفي تلك البقعة من السودان، ولعلّه قد لعب أخطر الأدوار السياسية والحربية في سلطنة دار مساليت... إذ أن النشاطين الاقتصادي والاجتماعي هما مجالان من السهولة بمكان لأي مهاجر مجتهد ومثابر أن يُحدث فيهما التفوق والأثر... لكن المجال السياسي، الخوض فيه محفوف بالمخاطر والصعاب، وذلك لأسباب تتعلق بالظروف الحياتية الجديدة التي يجد المهاجر نفسه في مواجهتها من إختلاف في التقاليد والعيش في بيئة جديدة إلى آخر العوامل التي تحد أصلاً من تدخل الغرباء الوافدين في شؤون السياسة في بلاد مهجرهم.. ذلكم هو الشيخ المجاهد السنوسي محمد النفّار. لقد هاجر الشيخ السنوسي النفّار من منطقة جالو في ليبيا التي يوجد بها الآن أبناء عمومته، وهي واحةٌ تقع جنوب مدينة بنغازي، وتعد من معاقل قبيلة المجابرة التي ينتمي لها الشيخ السنوسي النفّار... لقد دخل إقليم دارفور وهو يقود قافلةً تجارية بدأت مسيرها من جالو حتى جاءت إلى مدينة الكفرة التي تقع بالقرب من الحدود السودانية، ثم عبرت الصحراء، فوصلت إلى مدينة الفاشر وبعدها حثت المسير حتى وصلت إلى مدينة درجيل عاصمة سلطنة دار مساليت في غرب دارفور... أُعجب الشيخ السنوسي النفّار بمدينة درجيل أيما عجب، وطابت له عشرة أهلها فقرر البقاء والإقامة فيها... واتخذ منها مركزاً لنشاطه التجاري... ثم توطدت علاقاته الاجتماعية بأهل درجيل ... فصار صديقاً للسلطان تاج الدين، وشقيقه وولي عهده السلطان لاحقاً، بحر الدين.. واستمرت علاقته بهما في التطور حتى تم تعيينه مستشاراً لسلطان دار مساليت، فلا مشاحة إن لعب أدوراً خطيرةً ومهمةً في تاريخ السلطنة، وخاض حروباتها ضد خصومها جنباً إلى جنب مع السلطان تاج الدين محمد بحر الدين وأخيه بحر الدين محمد بحر الدين. بعد أن استقر المقام بالشيخ السنوسي في مدينة درجيل بدأ في ممارسة تجارة القوافل بين سلطنة المساليت والممالك المجاورة لها، مثل سلطنة الفور، وودّاي ودار سلا.. ثم سارت قوافله إلى ليبيا وتشاد ونيجيريا... ويُذكر انه كان يجلب للسلطنة فيما يجلب بالإضافة إلى السلع والبضائع العادية، السلاح الناري وذلك عن طريق ليبيا... ومن إحدى سفرياته التجارية إلى نيجيريا جلب معه شتول فاكهة المانجو، وزرعها في منطقة الجنينة الحالية (موقعها على wikimapia)، والتي لم تكن عاصمة لدار مساليت في ذلك الوقت... لكن يُوجد بواديها جنينتا السلطان والشيخ السنوسي.. وبعد أن ضرب الجفاف منطقة درجيل، اقترح الشيخ السنوسي على السلطان تحويل العاصمة من درجيل إلى موقع الجنينتين فوافق السلطان على الاقتراح ونُقلت العاصمة إلى الموقع الجديد، وعُرفت باسم الجنينة كما هو عليه الحال الآن... بعد استقراره في دار مساليت أصبح الشيخ السنوسي ضامناً لليبيين الذين يهاجرون إلى دار مساليت... وكان مسؤولاً عنهم أمام السلطان.. كما كان هو الذي يُعنى بقوافل التجار الليبيين الذين يفدون من ليبيا.. وكانت القوافل التي تأتي من ليبيا إلى دار مساليت، تكون قد أعلمت الشيخ السنوسي قبل فترة كافية بزمن حضورها المتوقع إلى السلطنة، وتحت رئاسة مَنْ مِنْ الناس؟ ويتم هذا الإعلام عن طريق تواتر القوافل، وعندما تصل القافلة المعنية إلى أطراف السلطنة تُرسل إلى الشيخ السنوسي من يُعلمه بدنو وصولها إلى العاصمة درجيل.. فيُخبر الشيخ بدوره السلطان بنبأ وصول القافلة إلى أراضي السلطنة... فينتدب السلطان من يكون في انتظارها في أطراف مدينة درجيل.. فيستقبل مندوب السلطان القافلة حال وصولها ويسجل أسماء الوافدين فيها من التجار.. ونوع البضائع التي تحملها، ثم يحدد لها البئر التي ستنزل حوله القافلة... ثم يقدم لها الضيافة نيابة عن السلطان وهي عبارة عن ذبائح وغيرها... وبعد ذلك يتم تحديد يوم لزيارة السلطان للضيوف التجار... وفي اليوم المحدد يُخرج أصحاب القافلة بضائعهم في الصباح الباكر ثم يضعونها في صف طويل، ثم يأتي السلطان فيسلم عليهم ويرحب بهم ثم يستعرض البضائع ويختار السلع التي تروق له، أما البضائع من الأسلحة فيُحظر بيعها لغير السلطان، او لمن يأذن له بذلك، بعد انصراف السلطان تتاح الفرصة للعامة للمعاينة والشراء. من هذا السرد البسيط لمجئ القوافل الليبية لدارفور يتضح كيف أن النشاط التجاري بين ليبيا ودارفور كان مرتباً ومنظماً، فالقوافل الليبية كانت تعرف وجهتها مسبقاً وتعلم شروط دخولها إلى أراضي السلطنة وما تحتاجه من بضائع وكيفية العرض والالتزام بالضوابط المتبعة في ذلك مما يؤكد عظم النشاط التجاري في دارفور في ذلك الزمن، ويؤكد أن الليبيين، قبل الهجرة وهم في وطنهم كانت لديهم معلومات وافرة عن دارفور وعن الحياة فيها، قبل التفكير في الهجرة إليها.. الأمر الذي ساعدهم في إتخاذ قرار الهجرة، ويمكن الرجوع إلى كتاب الدكتورة السويدية ليدوين كابتجن History of Dar Masalit للفترة من (1870 -1930). بعد أن تعززت علاقة الشيخ السنوسي بسلطان دار مساليت... وتم تعيينه مستشاراً للسلطان كما أسلفنا كُلِّف بتوفير وجلب الأسلحة النارية لجيش السلطنة من الخارج... وكان بالداخل يُصنِّع للجيش الأسلحة البيضاء، وقد كان مهموماً بقضايا السلطنة الأمنية، ولذا شارك في الحروبات التي دارت بين السلطنة وأعدائها. وقد بلغ وفاء الشيخ السنوسي لوطنه الجديد، أن حاول اختراق الحظر التجاري الذي فرضه السلطان علي دينار على تجارة سلطنة دار مساليت التي تعبر سلطنة الفور في طريقها إلى أم درمان، وذلك بسبب الحروبات التي دارت بين السلطنتين، فقاد قافلة ضخمة قوام بضاعتها من المواشي محاولاً عبور سلطنة الفور في طريقه إلى أم درمان .. إلا أن السلطان علي دينار علم بذلك التدبير فأرسل من يعترض طريقه، وبالفعل تم اعتراض القافلة وأُعتقل الشيخ السنوسي، وأُودع السجن في مدينة الفاشر، وقد خرج من السجن عن طريق توسطٍ ورجاء من رئيس قافلة ليبية يُدعى الريفي، قادمة من ليبيا إلى مدينة الفاشر. بعد أن احتلت فرنسا دولة تشاد، لم تخف مطامعها في ضم سلطنة دار مساليت وإلحاقها بمستعمراتها.. ونتيجة لذلك دارت عدة معارك بين المساليت والغزاة الفرنسيين وقد شارك الشيخ السنوسي كقائد ومقاتل في عدة معارك ضد الفرنسيين، ابتداءً من معركة درجيل وحتى معركة دروتي الفاصلة والحاسمة، حيث التقى الجمعان في منطقة دروتي عام 1911م... وكان جيش المساليت يقوده السلطان بنفسه، أما الجيش الفرنسي فكان تحت إمرة الجنرال مول Moll)) ومساعديه الفرنسيين، فدارت رحى معركةٍ رهيبةٍ بين الطرفين، انجلت عن نصرٍ باذخٍ لجيش المساليت وهزيمة نكراء للجيش الفرنسي، سارت بذكرها الركبّان، وفيها قُتل الجنرال مول وعددٌ كبير من جنوده وفر الباقون صوب تشاد... واستشهد السلطان تاج الدين في المعركة وجُرح كل من بحر الدين والشيخ المجاهد السنوسي... على إثر تلك المعركة، وبعد تنصيب السلطان بحر الدين الملقب بــ «أندوكة» سلطاناً على سلطنة دار مساليت، نصحه مستشاره الشيخ السنوسي، بضرورة إجراء محادثات مع الانجليز، الذين كانوا قد هزموا السلطان علي دينار في معركة برنجية شرق مدينة الفاشر عام 1916، وبعد أن دانت لهم السيطرة على سلطنة الفور في الفاشر... بدأوا في الاستعداد لغزو دار مساليت وإخضاعها لسيطرة انجلترا... وفي ذات الوقت كانت فرنسا تستعد من داخل تشاد لغزو سلطنة دار مساليت وضمها إلى تشاد انتقاماً لهزيمة الجيش الفرنسي في موقعة دروتي ومقتل قائده الجنرال مول... ولذا جاءت نصيحة الشيخ السنوسي للسلطان بحر الدين من اجل قطع الطريق أمام الفرنسيين الذين لو قُدر لهم وشنوا حملتهم الانتقامية تلك، لضموا دار مساليت إلى دولة تشاد التي كانت تقع تحت سيطرتهم آنذاك، ولما كان الشيخ موضع ثقة عند السلطان بحر الدين، فهو صديقه ومستشاره، فقد امتثل لنصيحته، وبادر إلى إيفاد الشيخ السنوسي النفّار نفسه، على رأس وفد من أهالي دار مساليت إلى مدينة الفاشر لإجراء مفاوضات صُلح مع الانجليز... وقد تم لهم ذلك وأُبرمت اتفاقيةٌ بينهم وبين الانجليز في عام 1919م... بموجبها انضمت سلطنة دار مساليت للتاج البريطاني... وفي عام 1922م دخل الجيش الانجليزي دار مساليت سلمياً بناءً على تلك الاتفاقية، وبذا تم قطع الطريق أمام الغزاة الفرنسيين. لقد توفى الشيخ المجاهد السنوسي النفّار في مدينة الجنينة في عام 1952م.. بعد أن خلف سيرةً ذاتية حافلة بالبطولات والتضحيات، والحكمة والحنكة، وسداد الرأي وثراء القريحة، وقد ترك بصماتٍ خالداتٍ في دار مساليت لن تُنسى أبداً... ضارباً أروع الأمثال في الوفاءِ للوطن الذي رحب به واستضافه في أديمه... وخلفه ابنه الشيخ مصطفى السنوسي في إدارة شؤون أهله من الأصول الليبية المتواجدين في دار مساليت، كما حافظ على نهج والده في صداقاته وعلاقاته بقادة سلطنة دار مساليت. ثم عمل على تطوير أعماله التجارية... فتمددت إلى دول تشاد وليبيا... ثم أنشأ أول معصرة للزيوت بالجنينة سماها معصرة دار مساليت، وكان للشيخ مصطفى السنوسي النفّار فكر اقتصادي ثاقب وطول باع في مجال الاستثمار، فلقد حكى لي ابنه فيصل مصطفى السنوسي، قصة إسهام والده في تطوير زراعة الفول السوداني في منطقة دار مساليت الذي كان يُزرع على نطاقٍ ضيق... فقد قال لي إن والده جاء إلى الخرطوم وحمَّل عدداً من سياراته الشاحنة بتقاوى الفول السوداني، وعدداً آخر من السيارات بجوالات فارغة.. ثم بدأ يجوب قرى دار مساليت .. وكان عندما يصل إلى قريةٍ من القرى ينزل عند شيخ القرية ويسلمه كميةً من التقاوى وكمية من الجوالات الفارغة ليوزعها على المزارعين بالمجان، شريطة أن يبيعوا له الإنتاج بعد الحصاد... وبالفعل قد نجحت سياسته تلك في تشجيع المزارعين الذين أنتجوا كمياتٍ كبيرةٍ من الفول... حتى صارت المنطقة تشتهر بزراعته... وتوفى الشيخ مصطفى السنوسي النفّار إلى رحمة مولاه في عام 1992م. بعد أن خلَّف سيرة ذاتية عطرة وسط أهله المساليت فقد كان كريماً وشجاعاً ومحباً للخير والناس فلا غرو أن تلهج آصرته بأفضاله إلى تاريخ هذا اليوم. قبل أن نختم هذه الحلقة، نود أن نشير إلى احد أحفاد الشيخ السنوسي النفّار، وهو الأستاذ عبد الرحيم أبو بدرية الذي يُعد إضافةً حقيقة لأحفاد هؤلاء المهاجرين الليبيين الذين نحن بصدد ذكر تاريخهم ومساهماتهم في إقليم دارفور... لقد عمل الأستاذ عبد الرحيم أبو بدرية معلماً في معظم قرى ومدن إقليم دارفور... وتخرَّج على يديه عددٌ كبيرٌ من الناجحين اليوم في الحياة العملية.. ثم ترك التدريس ليلتحق بجامعة الخرطوم كلية الآداب، ثم واصل تعليمه العالي فحصل على دبلوم عالٍ في القانون التجاري... بعدها انخرط في النشاط الاقتصادي أسوة بسابقيه، وأصبح من كبار مستوردي المفروشات إلى السودان... وكان له مكتب بشارع الحرية .. ثم أعاد كرةً أخرى تقليد أسلافه في إعمال وتفعيل تجارة الحدود بين ليبيا وتشاد والسودان، وما زال ينشط في هذا النمط الموروث عن أجداده الليبيين المهاجرين إلى دارفور.

سجل دخولك و علق على الموضوع



روابط على موقعنا

 

 

 

جالو ليبيا
اخر تحديث: 09/12/2010م.