كل برامج المواطن الليبي مؤجلة .. ؛ فهو يعيش حالة من الإنتظار منذ سنين طويلة .. ؛ ففي كل يوم يعيشه ؛ ينتظر غدَه .
ينتظر مزرعة من أمانة الزراعة .. وبيتا من أمانة المرافق .. وقرضا .. وسلفة .. وسيارة .. وأثاثا .. وأجهزة كهربائية .. وكلَّ شيء ؛ إنه ينتظِر الوظيفة ، ودورَهُ في العلاج بالخارج ، وحتى مولوده القادم ينتظره قلِقاً من نزوله في مصحاتنا الشعبية حيا أو ميتا أو بين هذا وذاك ! .
إنه ينتظِر حصتَه من نفط بلاده ، وينتظرالديمقراطيةَ والحريات والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان والصحافة المستقلة .. ؛
.. وهو أيضا ينتظر ( ليبيا الغد ) وينتظر حتى ( الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى الغد ) بنفس الرغبه والقدرة على الإنتظار .
إنه ينتظر الغِنَى ، وزيادة مرتبه ، كما ينتظر أكياسَ الأسمنت والحديدَ والخشب ، وينتظر مصرف الإدخار ليمنحه قرضا أقسم أنه لن يمنحه ! .. ؛
ينتظر رؤية بلادِه خضراء ! .. ، وينتظر الربيعَ الذي لم يستمتع به يوما ! .
المواطن الليبي ينتظر دوره في العيادة والمستشفى والمصحة وغرفة العمليات ، وحتى عامل الكهرباء ليعيد النور إلى بيته .
لقد ذهب عمره ، كلَّه ، في الإنتظار ؛ فهو ينتظر الحصولَ على قطعة أرض ، وبناءَها ، وتجديدَ سيارتِه العتيقة وأثاثِ بيته الذي تصدَّعَ هو والبيت على حد سواء .
إنه ينتظر نجاحَ أبنائه في مدارسَ بلا مدرسين ، وشفاءَهم في مستشفياتٍ مُعاقة ، وترييضَهم في أندية أشبه بالثكنات العسكرية .. ؛
.. ينتظر إصلاحَ الطرقِ والأحوال ، ووصولَ المياهِ العذبة إلى باب بيته .
وبين كل قائمة انتظارات وقائمة أخرى ينتظر التعيين ؛ له ، ولأولاده ، ولبناته ! ( وهو حكاية ! ) . وينتظر ترقيته التي تأخرت سنينا ليعيشَ مستورًا مثل باقي الخلق المستورين .
المواطن الليبي ينتظر إصدارَ جواز سفره ، وبطاقته الشخصية ، ورقمه الوطني ، ورقم معاش تقاعده أو شيخوخته ، وينتظر أحكامَ المحاكم ، ( وما أدراك ما أحكام المحاكم ! ) .. ؛
.. ينتظر صدورَها وتنفيذَها واحترامَها وحمايتَها ! .
ينتظر الإجازة ولا يتمتع بها .. ينتظر الفرصة ولا ينالها .. ينتظر الترقية ولا تمنح له ، وينتظر كل شيء ولا يتحصّل على شيء سوى المزيد من الإنتظار .. ، إنه ينتظر حتى عامل القمامة ولا يأتيه ! .
انتظار فوق انتظار ؛ فلا يأس ، ولا كلل ، ولا ملل ! .. ، إنَّ أجملَ ما في الليبيين أنهم لا يفقدون الأمل ، .. لا يغيب الأملُ عن ناظرَيهم مهما بدا انتظارُهم طويلا خانقا وبلا أية بشائر . بل وربما يحزن الليبي إذا حقق مكسبا نتيجة هذا الإنتظار ! ( وهذا بالطبع بعيد الإحتمال ) ، لأنه لا يحبُّ غيرَ الإنتظار . ولا يعشقُ ويطارد ويغازل إلا الإنتظار .. ولا يدمنُ سواه .
إنه يغزِلُ الإنتظارَ بالإنتظار ؛ يتنقُّل طيلةَ نهارِه بينها ، ويصنّف طوالَ ليله انتظاراتِه حسب الحاجةِ أو المكسب أو الأقدمية ! .
إنه ينتظر الطائراتِ والبواخرَ والحافلات . مثلما ينتظر مرتب أخته الضماني ، أو مرتبَ زوجها الشهيد أو المتوفى ، ونفقتَها ، ونفقةَ عيالها ، واستقرارَها بمنزل الزوجية .
فيا لقدرة الليبي على الإنتظار ! .. ؛ إنه ينتظر دوره في الحج ، والعمرة ، وحتى في الصلاة في بيوت الله أحيانا . ولأنه أدمن الإنتظار ، فهو ينتظر حتى مِرقابَ الحكومة ليتم إخباره بعدم ثبوتِ رؤية الهلال رغم أنه رآه بعينيه الإثنتين .
ينتظر التوبةَ والموتَ والآخرة .. وينتظر ( إصلاحا ) بنفس اللهفة التي ينتظِر بها آخرون ( مَهديّاً ) لا يُنتظَر خروجه .
إنه ينتظر تغيير وجوهِ المسؤولين التي أصبحت مألوفةً لديه أكثر من وجه زوجِه ووجوهِ عياله .. ؛ وينتظر تقديم ناهبي ثرواته وسارقي حريته وصحته إلى العدالة .
فالليبي ، هو بلا منازع ، سيد المنتظِرين ، بل هو المنتظر الوحيد الذي تُفتح أمامَه كلُّ الأفواه استغرابا وعَجبا واندهاشا .. ؛
.. حتى إنه ينتظر أشياءَ ينتظرها مستقبلا !! .. ؛ فالليبي هو المنتظِر الأول الذي لا مُثاقِف له ولا مُناجِز أو مُنافس أو مُسابق ، إنه أشهرُ منتظِر في التاريخ ! .. بطلٌ دون مُتحدٍّ أو مُبارٍ أو حتى حاسدٍ أو حاقد أو مُتمنٍّ زوال مجده وبطولاته ! .
فلماذا كلُّ حياة الليبيّ انتظار ؟! .
لماذا يضيِّع عمرَه ـ كلَّه ـ في الإنتظار !؟ .. لماذ يضيِّع عمرَه في التنقل بين المحطّات المهجورة منتظرا قطارًا لن يأتي ، قطارٌ لن يمرَّ أصلا من مكانِ انتظارِه .. ؛
.. قطارٌ لم يره أحد .. ، ولن يركبه ، لأنه ـ ببساطة ـ لم يُصنَعْ بعد !! .
ألا ليتَ عفاريتَ انتظارِنا ترحل ! ؛
إنّ الليبي ينتظِر لا ليحصلَ على شيء وإنما ليعيشَ متعةَ الإنتظار ، ويستمتعَ بالحديث عنه .. ؛ إنه إدمان مجانيّ لا يتطلَّب نقودا لشرائه ! .
ومع ذلك إذا سأله أحد : ـ " مِن أين أنت ؟ " يردّ : ـ " أنا ليبي ! " ، .. والحقيقة لا أحد يعرف إذا كان يقولها بفخر أو بنفخة كذَّابة .
بنغازي في 3 / 11 / 2010